الإيديولوجية الماركسية MARXISM By Professor4 Doctor Kamal MM ALASTTAL
المحاضرة رقم (5)
الإيديولوجية الماركسية MARXISM
By Professor4 Doctor Kamal MM ALASTTAL
أولاً: ما قبل الماركسية
أ- جذور الفكرة المادية للماركسية
وجدت الفكرة المادية طريقها على يد الفيلسوف اليوناني ديموقرايطس (450-370 ق.م.) ذلك الفيلسوف الذي صرّح بصورة عميقة وبعيدة النظر التخمين القائل بأن العالم يتألف من ذرات متناهية في الصغر، والتي لا ترى، وتختلف في صورها وحجمها، ولا تتجزأ، ومن الفراغ كذلك. ويتكون من ذرات هذا العالم المادي الذي يحط بنا، جاء ديموقرايطس من الطبقة الوسطى الماكة للعبيد، ولكنه كان ديموقراطيًا في نظرته السياسية، وقد شجع التطور العلمي والتجاري.
بينما نجد أن أفلاطون الذي عاش ما بين (427-347 ق.م.) كان خصمًا آيديوولوجيًا لديموقرايطس. وقد كان مثاليًا موضوعيًا، وقد صرّح بأن العالم الداخلي المرئي هو غير حقيقي، ووضع في مقابل ذلك عالم المُثُل، والذي قال عنه بأنه عالم غير متغيّر وهو "الوجود الحقيقي" هذا العالم المُتخيّل المثالي قد سبق العالم المادي المحسوس. بل هو بالنسبة لأفلاطون هو ظلّه أو هو انعكاس لعالم محجوب، وقد عادى أفلاطون بصورة واضحة الماديين الملحدين وأعلن عنهم أنهم يشكلون خطرًا وأنهم مجرمون يستحقون الموت. وقد كان أفلاطون ينتمي للطبقة الأرستقراطية اليونانية وكانت آراؤه الاجتماعية والسياسية متخلّفة ورجعية، ومن أجل ذلك اعتبر أن الطبقة الأرستقراطية المالكة للعبيد في جمهوريته التي يديرها حكام فلاسفة مع الجنود، بحيث تمثل الدولة المثالية، وقد دعا وكذلك عامل طبقة العبيد باحتقار واضح ومكشوف.
ولقد عكس هذا الاختلاف في هذين النهجين في الفلسفة اليونانية على من جاء بعدهما بين المادية والمثالية في اليونان القديمة.
أما في رأي الماركسية، فإن الديالكتيك عند فلاسفة اليونان القدماء كانت عفوية وتلقائية، هذا الديالكتيك قد تطور بصورة تفصيلية أكثر على يد الفيلسوف اليوناني هيروكلايطس الذي عاش ما بين (540-480 ق.م) ويعتبر هيروكلايطس الأب الأول لتشكّل الفكر الديالكتيكي، والذي يعتبر مادي ساذج وبسيط، حين أعلن: كل شيء في سيلان مستمر، كل شيء يتغيّر، حتى أنك لا تستطيع أن تستحم في ذات النهر مرتين، وبالنسبة لهروكلايطس فإن النار سائل متبخر وطيار، وعنصر مختلف، والنار هي أصل الأشياء في العالم. وقد اعتقد هيروكلايطس أن العالم لم يخلقه إله ولا إنسان، ولكنه كان وما زال وسيبقى نارًا أبدية حية.
يعلن لينين قول هيروكلايطس هذا بأنه توضيح رائع لمبادئ الديالكتيك المادي، وعلى الرغم من براءة ذلك وبساطته، فإنه توضيح للقاعدة الأساسية لفكرة الديالكتيك المادي ووحدة العالم المادي، موضوعية، استقلال الوعي، وحدة المادة والحركة، وقانونية حركة المادة، وقد وصفوا أسس الصراع، الصراع في المادة.
وكذلك فقد عارض أرسطو فكرة المُثُل الأفلاطونية معارضة شديدة وأكّد موضوعية وجود العالم المادي، وأن العالم الموضوعي في وجوده لا يعتمد على أية مُثُل، وأن جميع الأشياء في العالم موجودة في حركة. وقد صنّف أرسطو العلوم في ثلاث مجموعات: النظرية، والعلمية والإنتاجية الإبداعية، وقد وضع الفلسفة في إطار العلوم النظرية، وقد جعل هدفها، أي الفلسفة، دراسة الأسباب الرئيسية والبداية لكل موجد وهو يعتبر وبحق أساس المنطق، وعلم القوانين التي تشكل التفكير الصحيح.
2- الفلسفة المادية في القرن السادس عشر والسابع عشر
يعتبر إيرانيس بيكون (Erancis Bacon 1561-1626) الفيلسوف الانجليزي الأول الذي عارض المثالية والدين بشكل عنيف، وقد حدّد مهمة الفلسفة والعلوم بصورة عامة على أنها معرفة الطبيعة وهي تساعد الإنسان في السيطرة على قواها. وقد اعترف بيكون بمادية العالم، وأن صفاتها متنوعة من غير حدود، وقد جعل من المادة مشعة بكل أطياف قوس قزح كما وصفها ماركس على أنها تبتسم للإنسان بإحساس شاعري مشرق.
وقد زوّد بيكون العلماء بالأسلوب والمنهج في دراسة الطبيعة بشكل واسع في عصره. وقد أشار بيكون على أن المرء عليه أن يجرب وأن يلاحظ وأن يحلّل الحقائق، وأن يتقدم من دراسة الحقيقة الواحدة ثم يستخلص النتيجة، والتقدم بالفكر من دراسة الظاهرة الواحدة لاستخلاص القانون العام والذي سمّاه أندوكتسيا (استنتاج) Induction. ويعتبر بيكون واضع أسس العلم التجريبي ومنهج الاستنتاج العلمي. وهذه هي مساهمته في تطور الفكر الفسلفي. فالاستنتاج لبيكون كان الطريقة الوحيدة، بينما تجاهل الاستدلال على نقيض الفرضية والتي تجعل من الممكن استخلاص النتائج من الحقائق المعينة والمحددة.
وقد استمر بهذا الخط الفلسفي المادي بعد بيكون توماس هوبز (Thomas Hobbs 1679-1588) وكذلك جون لوك (John Locke 1704-1632) هؤلاء وخاصة هوبز قد فهموا العالم المادي والعضوي على أنه يتحرك ويعمل كما تعمل الماكنة، فالإنسان هو ماكينة تتحرك وتعمل بمواصفات الماكينة، فالقلب يشبه الزنبرك، بينما الأعصاب تشبه الأوتار، بينما المفاصل هي عبارة عن عجلات. وهؤلاء يعطون الجسم الحركة حتى الدولة في نظر هوبس ليست غير ماكينة كبيرة، وقد ساهم لوك في وضع الأسس للنظرية الحسية، نظرية المعرفة، والتي هي بالنسبة لكل العلم الإنساني تتبع المشاعر والأحاسيس.
ولكننا نجد في النصف الثاني من القرن السابع عشر تحول الفكر الانجليزي إلى فكر مثالي يدعم الثورة البرجوازية التي حطّت رحالها في انجلترا، تخلق طبقة أرستوقراطية الإقطاع. والتي تحتل مكانة مرموقة في المجتمع الانجليزي، لذلك نجد أن في النصف الأول من القرن الثامن عشر قد أخلت المادية مكانتها لصالح الفلسفة المثالية الخاصة عن طريق جورج بيريكلي (George Berkeley 1753-1684) وكذلك ساهم دافيد هيوم (David Hume 1776-1711)، لقد كان بيريكلي عدوًا لدودًا للمادية، لقد قال أن العالم المحيط بنا لا وجود له بغير وعي الإنسان، فالوعي هو الذي ينتج هذا العالم، وأن جميع الأشياء تتحد وتتركب من مشاعر وأحاسيس، والأشياء موجودة لأن الإنسان يراها ويسمعها ويحس بها. وهكذا فأنت عندما تشعر بوجودك، عندها فقط أنت موجود، إذا استوعبت هذه، فهي الركيزة لفلسفة بيركلي.
لذلك كره بيركلي النظرية المادية، وأعلن أن كل الأسس التكفيرية والإلحادية واللادينية قامت على أسس النظرية المادية. ولقد كان العنصر المادي صديق الملحدين في كل العصور، وقد اقترح محاربة ومنع النظرية المادية من التداول، وحرّض على اضطهاد أتباع ومؤيدي المادية، وقد شارك هيوم وجهة نظر بيركلي المثالية، واعتبر الأحاسيس والمشاعر الإنسانية هي الموجودة، وكذلك لم يعترف بموضوعية العالم.
بينما كان ديكارت يؤمن بالثنائية كمدخل لجوهر المسألة الفلسفية، وقد اعتبر أن العالم قد خلق من عنصرين مستقلين: المادة والوعي، وقد كان ديكارت يعتبر أبٌ للعقلانية وواضع أسس نظرية العلم وقد اعتبر العقل العنصر الوحيد للعلم، والموقف الضعيف في ذلك هو طلاق العقل من العلم والإدراك الحسي، وفي القرن السابع عشر قد أُعلن انتصار العقل على الاعتقاد والايمان والثقة اللامحدودة في قوى المعرفة الإنسانية، والنتيجة كانت على درجة من الأهمية عندما كان الدين والمثالية في تأرجح وارتجاج.
أما فلسفة المادة عند بندكت شبينوزه (1677-1632) والتي تشكلت في القرن السابع عشر في هولندا، الدولة التي كانت الرأسمالية متطورة بها أكثر من غيرها من الدول الأوروبية. فقد صاغ شبينوزه نظرية وحدة المادة والعالم، متخطيًا ثنائية ديكارت. وقد أكّد أن عنصر الطبيعة الواحد، يؤلف قاعدة لكل الأشياء في العالم، لقد كان هذا العنصر في فلسفة شبينوزه والفلسفة فيما قبل ماركس تعتبر الحصانة الأساسية لكل الموجودات التي كانت أزلية بالنسبة للوقت وغير محدودة في امتدادها الفضائي. وهذه الفلسفة المادية اعتبرت أن لا وجود للوعي خارج العنصر المادي. وقد أكد شبينوزه أن الطبيعة تتطور تبعًا لقوانينها هي وتبعًا لأسبابها ولا تتطلب تدخل قوى فوق طبيعية لخلقها، لقد كان شبينوزه ملحدًا في القرن السابع عشر، على الرغم من أنه لم ينتقد الدين بشكل مباشر، ولكنه بحث بشكل علمي ليبرهن على خداعها وتضليلها، ويكشف عن جذورها ودورها الرجعي، وعليه فإن فكرة الله بمقتضى فلسفة شبينوزه هو نتاج الطبيعة.
ثانيًا: ماهية الإيديولوجية الماركسية
الماركسية مذهب فلسفي مادي إلحادي، يرى أن كل ما في الكون من كائنات وموجودات حية وغير حية ناشئ عن المادة، فالمادة هي أصل الأشياء، وعن تطورها وجدت كل الأشياء، فلا يوجد وراءها شيء آخر، كما أن المادة أزلية قديمة لم يوجدها أحد، وتفسر الماركسية التاريخ تفسيراً مادياً أيضاً، فترجع كل أحداثه إلى العوامل الاقتصادية وصراع الطبقات فيما بينها
تتقاطع الماركسية مع عدة علوم، كعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والفلسفة، وسميت بالماركسية نسبة لمنظّرها الأول كارل ماركس (1818- 1883)، وهو فيلسوف واقتصادي ألماني يهودي، واشترك معه في تأسيس نظرية الشيوعية العلمية صديقه فريدريك إنغلز (1820- 1895).
ثالثًا: مؤسسي الإيديولوجية الماركسية
أ- كارل ماركس
ولد ماركس سنة 1818م في ألمانيا في عائلة يهودية، لكن والده اختار تغيير دين عائلته للمسيحية، فغيّر اسمه من هيرشل إلى هنريخ، كما غيّر اسم ابنه حاييم ذي الستة أعوام إلى كارل، ويرى بعض المؤرخين أن تبديل الأب لدينه كان حيلة اقتصادية ليندمج في المجتمع ويخلص نفسه وأولاده من الاضطهاد ضد اليهود، أما جد كارل فكان حاخاما ويدعى مردخاي ماركس.
درس كارل الفلسفة في جامعات بون وبرلين وفينا، وكان من المعجبين بفلسفة الألماني جورج هيغل، وهي تقول إن مسيرة الفكر والواقع تتطور بتفاعلات النفي المتتالي في صيرورة دائمة، لكنه رفض مثالية هيغل التي تجعل الأفكار أصل الأشياء، فكان ماركس مادي النزعة ويؤمن بأن المادة هي الأصل، ثم سافر إلى باريس وتعرف على الفلاسفة الاشتراكيين.
لم يكن ماركس في البداية ملحداً، ومن الشائع بين المؤرخين أنه عاش معظم حياته فقيرا حيث لم يجد كفنا لابنته عندما ماتت، وأنه طُرد مع عائلته من المنزل لعدم دفع أجرته، لا سيما وأنه كان يميل للقراءة والكتابة ويكره العمل حتى ماتت ابنتاه انتحارا، لكن المنزل الذي عاش فيه بلندن وما زال يحمل لافتة “كارل ماركس عاش هنا” يثبت أنه لم يكن فقيرا طيلة حياته.
أكد ماركس صداقته المتينة بالفيلسوف الصهيوني “موسى هس” صاحب كتاب “روما والقدس”، فقال ماركس “لقد اتخذت هذا العبقري لي مثالاً وقدوة، لما يتحلى به من دقة التفكير واتفاق آرائه مع عقيدتي وما أؤمن به، إنه رجل نضال وفكر وسلوك”، ومن المعروف أن مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل استقى مشروعه لتأسيس إسرائيل من مؤلفات هس.
وعبّر ماركس عن أفكاره أولاً في البيان الشيوعي الذي كتبه مع إنغلز عام 1848م، ثم في كتابه رأس المال 1867م، ومن أهم مؤلفاته أيضا “فقر الفلسفة”، “الاقتصاد السياسي والفلسفة”، و”الأيديولوجية الألمانية”.
ب- فريدريك إنغلز
نشأ إنغلز في أسرة ثرية جداً، ولم يكمل دراسته الجامعية ليساعد والده في إدارة شركاته المختلفة. بدأ بالانسلاخ فكرياً عن طبقته عندما شاهد -حسب قوله- معاناة العمال من مساوئ الرأسمالية، فشرع في دراسة الاشتراكية وتأثر بالجدل الهيغلي وبالرافضين للمثالية الفلسفية المطلقة. ونظراً لنزعته المادية، تعاون مع ماركس على وضع أسس المذهب، ويقال إنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات.
ومن أهم مؤلفاته: “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، “حالة الطبقة العاملة الإنجليزية”، “الرد على دوهرينغ”، و”الثورة والثورة المضادة في ألمانيا”.
رابعًا: أصول الماركسية في فكر ماركس وإنغلز
بنى ماركس وإنغلز فلسفتهما من خلال نقد وإعادة قراءة كل من:
1- الفلسفة الألمانية: فقد اهتما بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية وخاصة مذهب جورج هيغل الجدلي، ومذهب لودفيغ فيورباخ المادي الإلحادي، ثم أعادا إنتاجهما بمذهبهما الذي بات يسمى بالمادية الجدلية (الديالكتيكية).
2- نظرية التطور: التي وضعها تشارلز داروين في كتابه “أصل الأنواع”، حيث وجد فيها ماركس سندا علميا لنشأة الحياة بدون إله، كما استعار قانون التطور البيولوجي ليطبقه على المجتمعات، وعندما أصدر كتابه الشهير “رأس المال” أهداه إلى داروين، لذا يرى المنظر الشيوعي الروسي جورجي بليخانوف أن الماركسية هي التطبيق العملي للداروينية.
3- الاقتصاد السياسي الإنجليزي: اهتم ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي.
4- الاشتراكية الفرنسية: استفاد ماركس من نظرياتها التي انتشرت في القرن التاسع عشر التي كانت تمثل أعلى درجات النضال ضد بقايا الإقطاعية، وأعاد تقديمها تحت اسم الاشتراكية العلمية زاعما أنها ستقوم بالتغيير الثوري والحتمي للمجتمع بفعل تناقضات الرأسمالية، فكان يقول إن الاشتراكية لم تعد حلماً طوباوياً (مثالياً) كما كانت لدى سابقيه بل أصبحت اشتراكية علمية وحتمية.
5- عقيدة المخلّص اليهودي (المسيّا): فقد نشأ ماركس على التعاليم التلمودية في كنف عائلته، وكان متأثرا كما يبدو بالحلم الذي انتظره أجداده اليهود بمجيء صاحب الفردوس الأرضي الذي سيسيطر على العالم وينشر العدل، فأعاد ماركس صياغة حلمه بالفردوس الأرضي بعد دمجه بنظريات الطوباويين الفرنسيين، وتصور إمكانية تحققه -بل حتميته- على أيدي العمال المقهورين، وقد تبنى إنغلز هذه الفكرة بعد أن رأى بنفسه معاناة العمال في المصانع التي تملكها عائلته.
خامسًا: ركائز الفلسفة الماركسية
كانت فلسفة هيغل فلسفة "مثالية عقلية" أي أنها تعتبر الفكر أصل الأشياء وليس المادة، كما وضع هيغل أسس الفلسفة “الجدلية” التي تفترض أن كل شيء في الوجود يخضع للصراع الجدلي، فالقضية تتصارع مع نقيضها، فينشأ عن الصراع نقيض النقيض وهو أرقى من القضية الأصلية، وهكذا تظل الأشياء تتوالد وتتصارع مع نقيضها لترتقي في صيرورة دائمة، واعتبر هيغل أن هذا الصراع هو الذي يحرك التاريخ والطبيعة والفلسفة.
وجد ماركس في هذه الفلسفة ما يبحث عنه، فاعتبر أنها تغني عن وجود الإله طالما كان كل شيء يتصارع مع نقيضه ويتطور تلقائيا ليرتقي، وكان يزعم أنه أنزل نظرية هيغل من السماء إلى الأرض فليس هناك وجود للجانب الروحي، ويقول "إن العقل موجود، ولكن المادة موجودة قبل العقل، والعقل مرآة تنعكس عليها صور المادة"، فما دامت المادة موجودة قبل العقل -حسب افتراضه غير المبرهن- فقد جعل من ذلك مبررا لافتراض عدم وجود الخالق، وهكذا جعل ماركس كل شيء في الوجود ناتج عن انعكاسات المادة على مرآة العقل، بما فيها الإله والدين والخلق والسياسة والفكر.
ثم حاول ماركس أن يطبق نظرية هيغل على التاريخ البشري الذي اعتبر أنه يعيش صراعا حتمياً لا بد منه، فوضع نظرية “صراع الطبقات” كما سنبين لاحقا عند الحديث عن الشيوعية.
وتنقسم الفلسفة الماركسية إلى محورين، أما المحور الأول فهو المادية الجدلية (الديالكتيكية)، وهي بدورها تقوم على عنصرين:
أ- المادية: ترى أن كل شيء في العالم مادي، فالمادة موجودة بشكل موضوعي خارج الوعي، ووجودها مستقل عن الإنسان، وهي غير مخلوقة ولا تفنى، فهي سبب وأصل كل الموجودات، وهذا هو مبدأ الإلحاد.
ب- الجدلية (الديالكتيك): تفترض الصراع المستمر بين الشيء ونقيضه، وعندما يرتبط هذا الجدل (الصراع) بالمادة فهو يؤلّهها ويجعلها أصلا لكل شيء، بما في ذلك الوعي والروح.
وأما المحور الثاني فهو المادية التاريخية، حيث تعتبر الماركسية أن الوجود الاجتماعي (العلاقات الاقتصادية التي تنشأ بين الناس) هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي (الجانب الفكري والديني والأخلاقي)، إذن فالحياة المادية هي التي تحدد دين المجتمع وأفكاره وآراءه السياسية.
بناء على ما سبق؛ سيتم تناول وجهات نظر الماركسية في الصيغ التالية:
1– الماركسية والتاريخ
تقدم لنا الستالينية نظرة ماركس إلى التاريخ على اساس لوحة ستالين الشهيرة لتسلسل: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، فالاشتراكية. كل تشكيلة مؤلفة من بنية فوقية وبنية تحتية، وطبقات (عدا المشاعية) وتتميز بصراع طبقي، وتصل كل تشكيلة بنمو القوى المنتجة الى نقطة لا تعود علاقات الانتاج تتلاءم معها، فتمزقها، لتنشأ تشكيلة جديدة.
ان مفاهيم البنية الفوقية، والتحتية، وتصادم القوى المنتجة بعلاقات الانتاج، ونشوء تشكيلة جديدة من رحم القديمة مفاهيم تختص في نظر ماركس بنمط الانتاج الرأسمالي، وبه وحده، وليست معممة على كل التاريخ.
لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى ان التاريخ البشري، كتاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وان هذا التاريخ ينطوي على انماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، واقطاعية، ورأسمالية، وايضا شرقية (نمط الانتاج الآسيوي القديم).
هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمسة) يراد به قول ما يلي:
◄ وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.
◄ إن هذا التطور هو عملية عالمية واحد.
◄ إن نمط الانتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.
◄ إن هذا النمط الاخير ظاهرة جديدة وليس قديمة قدم الانسان.
اكتسب عرض ماركس للتاريخ شيئا من ملامح الغبش الصوفي للهيغلية، وبخاصة فكرة وجود غائية في التاريخ، أي كأن التاريخ هو ذات تعي نفسها. وهي فكرة انتقدها الماركسيون عموما، لأنها فكرة نافلة.
انتقد الماركسيون اللوحة الخماسية (لوحة المراحل المتعاقبة) التي صيغت في عهد ستالين، واعتبرت بمثابة القفص الحديدي. لاحظ باحثون كثيرون ان النمط العبودي الذي نشأ في اليونان وروما لم ينشأ في بلدان اخرى، وان نمط الانتاج الاقطاعي لم ينشأ لا في اليونان ولا روما، بل في المناطق الجرمانية (المانيا القديمة، فرنسا، الجزر البريطانية). ان الانتاج الرأسمالي فقد نشأ في بريطانيا وليس في اليونان.
هذا النمط من التناثر لأنماط الانتاج (وهي بالأساس انماط تقسيم عمل)، لا يضع رابطة سببية او تعاقبا سببيا بين نشوء العبودية والاقطاع، فالرأسمالية في اليونان او روما القديمة، هناك دوائر حضارية لم تعرف العبودية. واخرى لم تعرف الاقطاع. وبقيت اخرى مشاعية الى يومنا هذا (قبائل استراليا الاصلية قبل الغزو الاوربي). لقد ارادت نظرة ماركس الفلسفية الى التاريخ ان تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروسا من قبل.
2- الماركسية ونظرية المعرفة
تقوم المادية الديالكتيكية على عمودين، العمود الاول هو اولوية المادة على الوعي، وكون الوعي نفسه هو نتاج تطور شكل ارقى من المادة (الدماغ البشري)، والعمود الثاني، ان هناك "قوانين" للديالكتيك تنظم عمليات الطبيعة والمجتمع والفكر.
إن فكرة أولوية الوعي على المادة أو أولوية المادة على الوعي قديمة قدم الفلسفة، والنظرات الفلسفية الاولية السابقة لها، وان القول بأولوية المادة على الوعي قديم قدم المادية اليونانية نفسها، شأن الديالكتيك، ولنا الملاحظات التالية:
أ – تقوم مادية القرن التاسع عشر، ونظرية المعرفة اللصيقة بها على ثنائية الذات والموضوع. الذات الواعية، والواقع الموضوعي، موضوع الوعي. هذه الثنائية هي موضع اعتراض منذ بداية القرن العشرين. فالوحدة الاولى للمعرفة ليست ثنوية (ذات وموضوع)، بل رباعية:
ذات عارفة موضوع معرفة بتوسط اللغة كنظام اشارات لخزن المعرفة ونقلها، وذات اخرى تنقل لها المعرفة.