• كلمة الدكتور

    كلمة الدكتور كمال الأسطل:

    نسعى جاهدين لدعم الطالب الفلسطيني في كافة المجالات ، واستغلال التكنولوجيا المعلوماتية لذلك قمنا بانشاء الموقع الالكتروني , ويحتوي على مميزات عديدة من اجل ...
  • التفاعل والمشاركة

  • CV - السيرة الذاتية

الأربعاء04-10-2023

الفصل الثالث - نحو بناء نظرية التحليل السياسي - الشامل في نظرية وهندسة التحليل السياسي

 تاريخ النشر: 3/7/2023   وقت 3:07:50 مساءً   | طباعة |  ارسل لصديق

نحو بناء نظرية التحليل السياسي

 

أولاً: كل معرفة لها منهاجها

كل معرفة لها منهاجها. ذلك أن المنهاج ما هو إلا طريق الاقتراب والمساك بالظاهرة، والظاهرة تعني حقيقة لها خصائصها. هذه الخصائص تفرض أسلوب الوصول إليها. فكل معرفة تدور حول ظاهرة، وكل ظاهرة لها طبيعتها، وتلك الطبيعة تفرض أسلوب الوصول إليها. فالوصول إلى الظاهرة، بعبارة أخرى، يفرض لغة التخاطب مع تلك الظاهرة. وتلك اللغة نوع من المعرفة بطبيعة الظاهرة. وهذا منطقي طالما قد قررنا بأن المنهاجية تنبع من تلك الطبيعة وتتحدد بها. واكتشاف طبيعة الظاهرة، لا يمكن أن يتم قبل الوصول إليها، والغوص في أعماق تلك الظاهرة، بقصد الإمساك بحقيقة الهوية. الوصول إلى تلك الحقيقة، وإبرازها، يفترض إذن منهاجا معينا. وحيث أن المنهاج ينبع من الطبيعة. ألا يعني هذا نوعا من الدوران في حلقة مفرغة؟ أو بعبارة أخرى، كيف نخلق ذلك المنهاج قبل إتمام عملية اكتشاف تلك الطبيعة؟

سؤال تكمن في الإجابة عليه، طبيعة النبوغ الذي يميز المنطق الخلاق من غيره. في هذه الصعوبة يكمن الفارق بين العالم المتخصص، المكتشف، وغيره. فإن هذا العالم هو وحده، الذي يملك تلك الحساسية، التي هي أقرب إلى الإيحاء والحدس، منها إلى المنطق، والتي تعبر عن نبوغه الحقيقي، فإذا به يصير في الظلام يتحسس الظاهرة، وكلما اكتشف جزئية من جزئيات طبيعتها الدفينة، كلما عبر عنه بعنصر من عناصر البناء المنهاجي. وكلما كان التجديد المنهاجي أكثر صلاحية للالتحام بالظاهرة، كان هذا أكثر دلالة من العلم المنهاجي على فهم طبيعة الظاهرة. كل هذا دلالة على أن العالم أضحى أكثر اقترابا من اكتشاف طبيعة الظاهرة، حتى إذا اكتشف المنهاج، كان ذلك إيذانا باكتشاف الطبيعة، والعكس صحيح. وبعبارة أخرى، كلا العمليتين تتكامل مع الأخرى. وهنا لابد وأن نسجل عدة ملاحظات:

(1)    المنهاج ليس هو أداة البحث. فالمنهاج هو طريق الاقتراب من الظاهرة، وهو المسلك الذي نتبعه في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف الذي تحدد مسبقا. أما الأداة فهي الوسائل، أو الدابة، التي نمتطيها لتجاوز ذلك الطريق. بعبارة أخرى كلمة مناهج البحث تتضمن مفهومين يختلط الواحد منهما بالآخر في الاستعمال العام. ولكن ونحن بصدد بناء نظرية للتحليل السياسي يجب أن نميز بين كلا منهما. فمناهج البحث تبين أولا الطريق وثانيا الوسائل. 1-الطرق هي المسالك هي الخطوات التي تعني التنقل المتتالي حتى استكمال عملية الإمساك بالظاهرة والكشف عن هويتها. 2- أما الوسائل فهي تلك الأدوات التي نتربع فوقها لنستطيع أن نصل إلى الحقيقة. هناك وسائل عديدة مثل الاستبيان، والمقابلة والاستقراء، أو الاستنباط، أو المنطق القياسي، أو عملية الانتقال من الجزء إلى الكل.

(2)     كما أن المنهاج ينبع من طبيعة الظاهرة ورغم أن الأداة مستقلة عن المنهاج، إلا أنها يجب أن تتقابل من حيث خصائصها مع طبيعة المسلك الذي نتبعه في سبيل الوصول إلى الظاهرة. وهكذا تتحدد أمامنا علاقة ثلاثية: أولا: طبيعة الظاهرة، ثانيا: مسلك الاقتراب من الظاهرة، ثالثا: أداة اجتياز ذلك المسلك. كل من هذه الأبعاد الثلاث مستقل عن الآخر، وإن كل منهما لابد وأن يؤثر في الآخر. فطبيعة الظاهرة القانونية-على سبيل المثال- هو أنها ظاهرة شكلية، تفرض مسلكا للاقتراب يغلب عليه الطابع الشكلي وأداته في ذلك منطق تجريدي أي منطق صوري. هذه العلاقة واضحة ولا تثير مشاكل بالنسبة للثقافات التي تتناول ظواهر جزئية. أما عندما نتعرض للثقافة التي تدور حول ظواهر كلية كالثقافة السياسية، فإن المشكلة تصير معقدة والاختلاط بين المفاهيم يصير أكثر سهولة وأكثر خطورة في وقت واحد.

 

إن العلوم الطبيعة كقاعدة عامة للتحليل بالنسبة لها لا يفرض الخروج عن حدود الظاهرة ذاتها. ذلك أن الظاهرة تجيب هي نفسها على علامات الاستفهام. فالماء هو الذي يخبرنا بأنه يتكون من الأوكسجين والهيدروجين. هذه الطبيعة نكتشفها عندما نتوصل إلى أن العملية التي تسمح باكتشاف طبيعة الماء هي إخضاعه لدرجة حرارة معينة، الأمر الذي يمكننا من تفتيت المادة لنصل إلى ذرتها النهائية. وهكذا تصير طبيعة الظاهرة هي التي حددت مسلك الاقتراب من الظاهرة –أي الأسلوب التحليلي للظاهرة- الذي بدوره حدد الأداة بل يكاد يصير مرادف لتلك الأداة وهو الإخضاع لدرجة حرارة معينة.

ولو انتقلنا إلى علم السياسية فإن الأمر يختلف اختلافا كليا. فالظاهرة مركبة، لأنها ظاهرة كلية، ومن ثم فهي تتكون من جزئيات اقتصادية وأخرى نفسية وثالثة ديموجرافية وجغرافية وحضارية، وهكذا. مسلك الاقتراب من الظاهرة السياسية سوف يتحدد مستقلا عن طبيعة الظاهرة لأنه يجب أن ينبع من خصوصية تلك الجزئيات. كذلك أسلوب أو أداة اجتياز ذلك المسلك مستقلة بدورها عن كلا من طبيعة الظاهرة، ومسلك الاقتراب. حيث أن المسلك قد يكون مسلكا نفسيا أو قانونيا أو أكثر من مسلك واحد في آن واحد. وأداة اجتياز ذلك المسلك واحدا كان او متعددا هي بدورها مستقلة عن المسلك لأنها تنبع وتتحدد بطبيعة المرحلة التي نجتازها من مراحل الاقتراب من الظاهرة السياسية. هل هي مرحلة تجريبية أم مرحلة تجريدية؟

(3)    إن عملية التصور العقلي تفرض التجريد وتكون جزءا أساسيا من العملية المنهاجية. الواقع أن المنهاج في أوسع معانيه هو دراسة للأدوات والمسالك التي يستخدمها الباحث لبناء القوانين العلمية. والقانون العلمي هو تأكيد ذا صفة مطلقة من حيث الزمان والمكان. وهكذا فإن بناء القانون يفترض التعاون بين عنصرين يملك كلا منهما استقلالا ذاتيا:

 (أولا) المعرفة بالواقع أو الالتحام بالواقعة موضع التفسير والتحليل.

(ثانيا) التأمل والتفكير والاستدلال الذي يدور حول تلك الواقعة.

الوظيفة المنهاجية تدور حول خلق العلاقة بين هذين العنصرين، بين الواقعة في تطوراتها المتعاقبة، وبين الفكر في تحليقاته العمومية، أي بين التجريب بما يعنيه من التحام بالخبرة والتجريد بما يفرض من إطلاق في الكليات.

إن مناهج البحث في العلوم السياسية هي صورة واضحة لضرورة الجمع بين التجريد والتجريب والتنقل المتتالي المتابع من إحداها إلى الآخر بحيث أيا منهما لا يكفي ولا يشبع في بناء القانون العلمي وتحديد إطلاقاته وقيوده الزمنية والمكانية والموضوعية، وبحيث أيا منهما يكون نقطة بداية ونقطة نهاية في وقت واحد.

(4)    أن الصفة الأساسية التي تعكس علمية المنهاج في التحليل هو ثبات النتائج التي تصل إليها عن طريق المنهاج بغض النظر عن شخص الباحث. الحقيقة مستقلة عن شخص الباحث وهي واحدة ودائمة بغض النظر عن عامل الزمان والمكان، والمنهاج ينبع من تلك الطبيعة ويتحدد بها. النتائج إذن هي مطلقة ودائمة وثابتة بغض النظر عن شخص الباحث. وحيث تتعدد النتائج فإن هذا يعني أن المنهاج لم يرتفع إلى مرتبة الصفة العلمية.

(5)    هذه الذاتية التي تنبع من طبيعة الظاهرة دون أن ترفض الموضوعية بل تفرضها لأنها لا تتحدد بشخص الباحث، لها نتائجها في نطاق التحليل السياسي وبصفة خاصة في المجتمعات المتخلفة. فرغم أن الظاهرة السياسية هي ظاهرة واحدة وأن التخلف أو التنمية بمعنى أحد تطبيقاتها إلا أن الخصائص التي تميز هذا التخلف لابد وأن تعكس وجودها في ظاهرة السلطة المرتبطة بذلك الموقف. ويكفي أن نتذكر تلك الفرقة بين القلة الحاكمة وبين الجماهير المحكومة وبالتالي اختفاء علاقة الاتصال بين مقومات الوجود السياسي. هذه الذاتية لابد وأن تفرض نفسها أيضا على منهاجية التحليل، بحث نستطيع أن نتحدث عن نظرية للتحليل السياسي في المجتمعات المتخلفة. تتضح هذه الحقيقة بشكل واضح وصريح في أبحاث الرأي العام، ولكنها لا تقل خطورة في نطاق التطبيقات الأخرى للتحليل السياسي.

(6)    وحتى وقت قريب في الربع الأخير من القرن العشرين يجب أن نتذكر أن أحد فروع علم السياسة وهو دراسة العلاقات الدولية قد عانى من عدم وجود محاولات جدية لبناء الأبعاد المنهاجية للتحليل. حتى انه كان يوصف بأنه الجزء المتخلف من الثقافة السياسية. وكان سبب ذلك يرجع إلى عدم وجود متخصصين حقيقيين في علم العلاقات الدولية (وخاصة في الدول النامية أو العالم المتخلف). فأغلب من تعرض لهذه الدراسات إما كان يأتي من الثقافة التاريخية أو الثقافة القانونية. والنتيجة لا يمكن أن تكون إلا وخيمة النتائج على الثقافة المرتبطة بالعلاقات الدولية: في الحالة الأولى تصير عرضا تاريخيا للوقائع، وفي الحالة الثانية، تنزل إلى مرتبة الدراسة الجامعة لبعض النصوص والنظم. وفي كلا الحالين تصير دراسة العلاقات الدولية تابعة من النواحي المنهاجية دون أن تملك استقلالها الذاتي: منهاج تاريخي في الأول ومنطق قانوني في الثاني. وقد أدى ذلك في حينه إلى عدم وضوح في مفهوم مادة العلاقات الدولية. حيث كان ولا يزال الكثيرين يتساءلون عن الفارق ين السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والسياسية الدولية.. ورغم ذلك فقد خطت مادة العلاقات الدولية خطوات واسعة نحو بناء منهاجيتها التحليلية بعد أن كانت عبئا ثقيلا على الثقافة السياسية. فأضحت العلاقات الدولية علما له نظرياته ومنهاجيته ويتمتع بالصفة الديناميكية المتجددة والأكثر حيوية.

 

ثانيًا: المعرفة العلمية والثقافة السياسية ونظرية التحليل السياسي

الثقافة السياسية أو أي ثقافة لتصير علمية يجب أن تتصف أساسا بصفات ثلاث:

أولا: ثقافة وضعية بمعنى انها لا تخضع للعاطفة ولا تتنوع تبعا لذات الباحثة
أو خصائص المكتشف للحقيقة.

ثانيا: يجب أن تكون كمية أي أن تعبر عنها بلغة رقمية وأن يخضع موضوعها للقياس المادي القابل لتعميم النتائج ولمقارنة الظواهر تبعا لأبعادها وخصائصها الخارجية.

ثالثا: يجب أن تكون مباشرة بمعنى أنها تتجه إلى الظاهرة ذاتها تسألها وتتولى نفس الظاهرة الإجابة على تلك الاستفهامات. لقد وسبق أن رأينا أن المنهاج هو لغة للخطاب والاتصال بين الباحث والحقيقة، وهذا يعني أن المعرفة يجب أن تكون خلاصة اكتشاف لتلك العلاقة المباشرة التي تخاطب فيها الظاهرة الباحث عن حقيقتها لتعلن عن خصائصها وهويتها.

بعبارة أخرى موضوع المعرفة العلمية هو الكشف عن طبيعة العلاقات الإرتباطية التي تحيط بظاهرة معينة وتحكم تحركاتها المتلاحقة. ووظيفة العالم أن يكتشف تلك العلاقات، بغض النظر عن تسميتها، وأن يحدد مدلولها بصفة ثابتة ومستقرة مع تقديم نوع من التبويب لمجموعها حول هيكل عام يحكم منطق تلك الظاهرة.

المعرفة العلمية بهذا المعنى تفترض كخلفية لها حقائق ثلاث:

1- صياغة للقانون في معناه العلمي. العلاقة الارتباطية التي هي موضوع الاكتشاف لابد وأن تسمح في مرتبة معينة من مراتب التحليل لعملية تجريد وتعميم معينة فإذا بها تقودنا إلى صياغة القانون العلمي الذي يحكم تلك العلاقة. القانون العلمي بهذا المعنى لا يعدو أن يكون تلخيصا لحقيقة ثابتة.

2- هذه القوانين عندما تتعدد وتترابط تسمح لنا باكتشاف المنطق العام الذي ينبع من تلك الظاهرة أو بعبارة أخرى منطق الظاهرة ذاتها. فإذا تعددت تلك القوانين فإن النبوغ الفكري لابد وأن يقودنا من خلال عملية تجريد أكثر عمومية إلى اكتشاف المنطق الذي تنبع منه الظاهرة. فمجوعة القوانين التي تفسر ظاهرة معينة لابد وأن يختفي خلفها منطقا معينا نستطيع استكشافه من خلال عملية انتقال تدريجية من الجزء، أي القانون، إلى الكل، أي المنطق، الذي منه وبه يتحدد النظام العام الذي تدور في فلكه تلك الظاهرة. هذا المنطق هو المرادف لكلمة النظرية العامة.

3- المنطق العلمي يتضمن نوعا من اللزوم والنفاذ الكلي. هذا النفاذ هو الذي يمكننا من الربط بين الوقائع والتصرفات أو بعبارة أدق بين الواقعية ودلالتها في الإطار العام لمسارات الحركة وما يرتبط بها من تدفق للطاقة من تعامل منطقي حتى ولو كان المنطق يخضع لذاتية صاحبه. فالثقافة العلمية ثقافة منظمة ولكن صلابة المنطق العلمي وتقدمه لا يعبر عنه سوى إمكانية هذا المنطق من التنبؤ بالمستقبل وبالتالي من محاولة التحكم في الأحداث. وعند ذلك، وفقط عندما يصل المنطق العلمي إلى تلك المرتبة من مراتب اللزوم والتعميم تبدأ تبرز مشكلة أخرى وهي علاقة الثقافة العلمية بتطور المجتمع السياسي: كيف نستطيع أن نربط المجتمع بالعلم وكيف نستطيع أن نستخدم التقدم العلمي أداة من أدوات التطور الاجتماعي والسياسي؟

ثالثًا: التحديد بموضوع الثقافة السياسية (أو وحدة التحليل في نظرية التحليل السياسي)

قد يبدو من الطبيعي ونحن بصدد بناء نظرية التحليل السياسي أن نبدأ فنعرف علم السياسة على أن هذا غير صحيح. حيث أننا ونحن بصدد بناء أدوات وأساليب المنهاجية السياسية لا يعنينا كيف نعرف علم السياسة، ولا تعنينا عملية التمييز بين فروع علم السياسة لأنه في أي حال وفي أي وضع فهم موضوع علم السياسة، فإن مشكلة المنهاجية وهذه الحقيقة كثيرا ما تبدو غير واضحة في أذهان المتخصصين، مستقلة استقلالا كاملا عن التحديد بوحدة علم السياسة.

 وسواء أكان موضوع علم السياسة هو الدولة أو هو السلطة وما يرتبط بذلك من حيث القرار السياسي أو الموقف السياسي فإن جميع ذلك يعتبر فرعيا ونحن بصدد المشكلة المنهاجية والسبب في ذلك يعود إلى عاملين:

1- لأن أي من هذه التعريفات لعلم السياسية لا يمنع الباحث -بل ولابد لأن يكون بحثه متكاملا- من أن يقوده إلى الأبعاد الأخرى للوجود السياسي. كيف نستطيع أن نفهم الدولة دون أن نتعرض لظاهرة السلطة؟ وكيف نفهم السلطة منفصلة عن تعبيراتها الحركية وهي عملية اتخاذ القرار السياسي؟ وهل السلطة كحقيقة ديناميكية شيء مختلف عن الموقف السياسي؟

2- كذلك فإن أسلوب الوصول إلى الحقيقة هو مشكلة مستقلة عن تلك الحقيقة. حيث أن أسلوب الوصول إلى تلك الحقيقة يثير مشاكل مستقلة استقلالا يكاد أن يكون كاملا عن طبيعة تلك الحقيقة.

على أن هذا لا يمنع أن التعريف بعلم السياسة ضرورة يفرضها التقدم والتكامل في بناء الثقافة العلمية المرتبطة بالتحليل السياسي. ونحن لا نريد أن ندخل في نقاش حول موضوع المعرفة السياسية ونكتفي أن نقول أنه يدور حول ظاهرة السلطة بأوسع معانيها وأن هذا يعني:

1- أن موضوع الثقافة السياسية هو ظاهرة اجتماعية تدور حول النشاط اليومي المرتبط بالعلاقة بين المواطن والسلطة: المواطن وهو يخضع للسلطة أو يوجه السلطة وهي توجه المواطن أو تسعى لرضائه. أو بعابرة أخرى أو موضوع للثقافة السياسية هو ما نسميه بالعلمية السياسية.

2- والعملية السياسية تفترض كخلفية واضحة لوجودها صراع وصدام بين المصالح. هذا الصراع قد يكون خفيا وقد يكون واضحا. قد يكون سلميا وقد يكون عنيفا. قد يسلك الطريق الشرعي والمشروع وقد لا يعبأ بالشرعية والمشروعية القانونية سواء من خلال التحايل عليها أو دون أن يعبأ بتحطيمها أو تحويلها إلى حطام باسم الشرعية السياسية. وتعنينا صور هذا الصراع بقدر ما تعنينا نتائجه: فقد ينتهي إلى التوفيق وقد يقود إلى التمزق. إن هذه هي الحياة السياسية.

3- العملية السياسية، والحياة السياسية، تدور وتتركز حول عملية اتخاذ القرار السياسي. فاتخاذ القرار هو نقطة البداية ونقطة النهاية في تتابع ديالكتيكي مستمر به يصفى موقف سياسي ومنه يبدأ موقف سياسي جديد.

4- واتخاذ القرار السياسي لا يمكن أن ينتزع من عملية الإسناد الإكراهي للقيم. وبغض النظر عن مدلول هذا الاصطلاح، وسواء قبلنا أفكار "ديفيد إيستون" أو رفضناها، فالأمر الذي لا شك فيه أن علمية خلق القيم ومتابعتها النظامية بمعنى تحقيق عملية الاندماج بين الوعي المرتبط بالقيم والسلوك الفردي المعبر عن التجانس واستيعاب تلك القيم لا يمكن إلا أن ينبع من السلطة.

وهكذا تدور حول الأبعاد الأربعة الثقافة السياسية: ظاهرة اجتماعية-عملية سياسية وصدام بين المصالح- عملية اتخاذ قرار سياسي-الإسناد الإكراهي للقيم.

رابعًا: أنواع البحث السياسي

يأخذ البحث السياسي صورة من ثلاث:

الصورة الأولى: الهندسة السياسية: Political Engineering والهندسة السياسية عادة ما تبرز في نطاق الحياة السياسية حيث تكون غاية الباحث ووظيفته جمع قسط من المعلومات يسمح بالإقناع لتبني أسلوب من الحركة كانت قد تحددت صلاحيته مقدما. هذا التجميع للمعلومات قد يوصف بأنه بحث سياسي، وقد توجد في الأجهزة المرتبطة بالأداة الحكومية أو بالنظم الحزبية أو الأجهزة الأمنية أقسام وإدارات توصف بأنها أجهزة للبحث السياسي. ومع ذلك يصعب أن نسمي ذلك بأنه بحث علمي. إن هذه العملية ذات الطابع التجميعي التطبيقي هي أقرب إلى الهندسة السياسية منها إلى علم السياسة. وإذا أردنا أن نقرب هذا المفهوم فلنتصور وظيفة المحامي من الحقيقة، فهو يتبنى موقف طرف أو وجهة نظر ذاتية وغائية، مما لا شك فيه أنه قد يشعر أن من واجبه أن يلفت نظر وكيله إلى مواطن الضعف في وجهة نظره، ولكن هذا لا يمنع أنه محدد ومقيد في أبعاد معلوماته وتقديم هذه المعلومات بواجبة ووظيفته وهي الدفاع عن مصالح موكله. وهكذا الهندسة السياسية –بهذا المعنى-تعني الدفاع عن وجهة نظر حزب سياسي في معناه الدقيق وإن كانت تستخدم البحث السياسي في سبيل تحقيق أغراضها وأداء وظيفتها. ورغم ذلك سوف نرى في سياق آخر أن مفهوم الهندسة السياسية أوسع من هذا المفهوم حيث يشمله ويشمل عملية إنشاء أو ترميم واقع سياسي أو ظاهرة سياسية.

الصورة الثانية: النظرية العقائدية: Ideological Theory or Values Theoryالصورة الثانية من صور التحليل السياسي هي البحث عن المثاليات المرتبطة بالالتزام السياسي. ما هي الحكومة الطيبة؟ ما هو خير نماذج الحكم؟ كيف يجب أن يؤدي الزعيم السياسي وظيفته؟ وما هي الأبعاد النهائية للوجود السياسي للنظام، الحرية، الأمن، العدالة، المساواة؟ وإذا تعارضت هذه الغايات المختلفة فأيها له الأفضلية؟ وكيف نختار في تلك اللحظة؟ هذه المشاكل أثارها الفلاسفة وتعرض لها المفكرون كل بأسلوبه وكل يستمد مواجهته لهده المشاكل من منطقه وفلسفته. وإذا كان النوع السابق من أنواع البحث الذي أسميناه بالهندسة السياسية أقرب إلى أن يكون تبريرا للحركة؟ فإن هذا النوع الثاني من أنواع البحث السياسي يغلب عليه الطابع الكهنوتي بحيث أن الباحث في نطاقه حتى ولو وصف تحليله بأنه يقدم نظرية، إلا أن محور الدراسة هو القيم ولذلك يجب أن نسمي هذا النوع من البحث في أقصى مراحله من حيث التكامل بأنه النظرية العقائدية.

الصورة الثالثة: النظرية التجريبية: إلى جانب الصورتين السابقتين من صور التحليل السياسي، هناك صورة ثالثة نسرع بتسميتها بالنظرية التجريبية. الباحث في هذا النطاق لا يتخذ موقف المدافع بمعنى الملتزم-عن وجهة نظر معينة أو بمعنى رجل العقيدة الذي يبحث عن المثل المجردة وإنما هو يقف إزاء الوقائع ويحاول أن يكتشف كيف تتبلور تلك الوقائع سواء أكانت حوادث سياسية أو حوادث ووقائع عادية أو نظم مرتبطة بتلك الحوادث. هو يصف الوقائع ويحاول أن يكتشف مم تكون الواقعة، كيف حدثت، ما هي آثارها، ما هي علاقتها بغيرها من الوقائع؟ الباحث هو أولا محايد إزاء الواقعة لا يحاول أن يفسرها متأثرا بموقف معين كما هو بالنسبة للهندسة السياسية، ولا يزعم أن من حقه أن يقيم الواقعة بأن يصفها بأنها طيبة أو رديئة كما يحدث في نطاق النظرية العقائدية (القيمية). هو يدع بعبارة أخرى الأحكام جانبا ويترك ما يجب أن يكون What is to be? ليقف أمام ما هو قائم فعلا what Is?.

البحث السياسي بالمعنى الأخير هو فقط الذي يعنينا في نطاق نظرية التحليل السياسي، قد ينتفع بنتائجه من يتعرض للبحث السياسي في معانيه الأخرى، ولكن الذي يعنينا أن نؤكده هو أن نظرية التحليل السياسي هي امتداد وجوهر النظرية التجريبية.

 

غير أن هذا لا يمنع أن نلاحظ ما يلي:

(1)   أن النظرية التجريبية تتعارض مع أي صورة أخرى من صور البحث السياسي. فالهندسة السياسية قد تكون غير محايدة وغير وضعية ومن ثم ترفض التقاليد العلمية القائمة على الحياد وعدم الذاتية. الهندسة السياسية مرتبطة بالحركة التي لها طابع ذاتي وقد يكون منطقها التغيير والترميم والإصلاح والانقلاب وحتى الاغتيال السياسي من أجل تحقيق غايات من يقف وراء الحركة السياسية.

(2)    والنظرية العقائدية تحيا في كليات الكهنوت السياسي الذي هو من قبيل التبشير Preaching وليس ما يدخل في نطاق العلم البحث.

(3)    على أن هذا لا يعني أن هذه الأنواع الأخرى من أنواع البحث السياسي أقلل أهمية بل العكس كانت ولا تزال تؤدي وظيفة خطيرة في نطاق الوجود السياسي والحركة السياسية.

(4)   أن التطور الذي تحياه الجماعات والمجتمعات المعاصرة في سعيها نحو الكمال يعاصر نوعا من التزاحم بين هذه الأنواع الثلاثة من البحث السياسي في مصلحة النظرية التجريبية وعلى حساب كلا من النظرية العقائدية والهندسة السياسية. بل ويمكن القول بأن إحدى مشاكل التخلف السياسي هي انه لم يستطع بعد رغم طبيعته أن يتمكن من متطلبات النظرية التجريبية.

(5)   رغم ذلك فالنظرية التجريبية مقيدة من حيث أبعادها لأنها تدور في فلك الواقع قد قيدت نفسها بالواقعة. تحيا فيها وتدور حولها ولا تتعدى وجودها.

 

خامسًا: مشاكل التحليل السياسي

هناك عدة مشاكل تواجه عملية التحليل السياسي نذكر منها ما يلي:

1-     عدم الاتفاق على تحديد موحد متفق عليه للوقائع

النظرية التجريبية تدور حول الوقائع. عليها أن تبحث عن الواقعة ثم تنظفها لتجعلها تشع كالجوهرة. ولكن البحث العلمي لا يكتفي بذلك، إنه يفترض أن ندع الواقعة تتكلم، أي تتكلم بنفسها، لغة ومنطقا. ولكن الواقعة السياسية خرساء لا تتكلم فكيف نستطيع أن نكرهها على الحديث؟ هذه أولى مشاكل التحليل السياسي وتزداد الأمور صعوبة وتعقيدا عندما نتذكر أن الواقعة السياسية هي أقل الوقائع صلابة لأنها تشع بسهولة مالا تملكه، أو بعبارة أخرى أدق تمتص بسهولة الحقائق العقائدية. ونتيجة ذلك تشويه الواقعة أو صبغها بصفات دخيلة عليها. أليس دليلا على صحة هذه الملاحظة أنه يندر أن نجد عالما شيوعيا أو إسلاميا أو عقائديا يختلف مع زميله من العالم الغربي في مسميات الأشياء عندما يرتبط بحثهما في نطاق العلوم البحثة كالطبيعة أو الأحياء في حين يندر أن نجد عالما للسياسة شيوعيا أو إسلاميا يتفق في تسميته للظواهر مع عالم للسياسة ينتمي إلى التقاليد الرأسمالية الغربية.

2-     توضيح العلاقة بين المفاهيم السياسية والوقائع.

 ما معنى المفهوم السياسي؟ في أوسع معانيه يقصد بالمفهوم السياسي كل اصطلاح يتضمن عملية بنائية لحقيقة تجريدية تفرض تعميما لظاهرة وتعطي ذلك التعميم إحدى المسميات الأمر الذي يسمح لا فقط بدراسة وتحليل تلك الظاهرة بل وتمييز موضوع المفهوم عن غيره مما يمكن أن يتشابه او يختلط به. بهذا المعنى المفهوم السياسي يفترض خطوات سابقة إحداها اكتشاف الواقعة. ولكنه يفترض خطوات لاحقة تدور حول جعل المفهوم أساسا لفهم وقائع جديدة. المفاهيم تكون كليات مجردة تضم الوقائع وتحتضنها دون ان تعطي هذه الوقائع فرصة للحديث عن نفسها.

3- مشكلة المنهاجي في علم السياسة: وظيفته وموضعه من المعرفة بظاهرة السلطة

يعرف العالم الأميركي "لا زارسفيلد" المنهاجي بأنه "الباحث الذي يسيطر عليه في اقترابه لموضوع دراسته المنهاج التحليلي". إن ما يعني الخبير المنهاجي ليس مقومات تفسير الظواهر بقدر ما يعنيه أسلوب التحليل: افتراضات، إجراءات، وسائل وأدوات للوصف وللتحليل. المنهاجي لا ينظر إلى ما يجب أو ينبغي أن يكون أو الذي يفضله أو لا يفضله بل ما هو كائن بالفعل. على أن هذا يعتبر تبسيطا لحقيقة أكثر عمقا وأكثر تعقيدا. حيث أن أول سؤال يجب أن نثيره هو: ما المقصود بالمتخصص في مادة مناهج البحث؟

4-     ما المقصود بالمتخصص في مادة مناهج البحث؟

 صياغة السؤال بهذا الشكل يعني التسليم مقدما بعلم مستقل باسم علم مناهج البحث. فكيف يمكن أن ذلك وقد سبق أن قلنا بأن العلم ليصير علما يجب أن يكون له موضوع مستقل أي ظاهرة قابلة لأن تعزل عن غيرها مما يتصل بها من ظواهر أخرى.

الواقع أن أكثر من متخصص ينكر وجود علم مستقل باسم علم مناهج البحث. وهم يستندون إلى دعوى أن كل علم له مناهجه. فعلم الطبيعة له مناهجه المستقلة التي تختلف عن مناهج علم الطب، أو علم الاقتصاد، أو علم النفس....الخ. وهذا الاتجاه لابد وأن يجد ما يبرره فيما سبق وأن ذكرناه من أن هنالك تلاحم واضح بين طبيعة الظاهرة والمنهاج الذي يتبع لاكتشاف تلك الظاهرة من حيث خصائصها ومقوماتها.

على أن هذا الاتجاه رغم وجاهته لأول وهلة لم يعد يقبله الفقه المعاصر، بل هو لا يعبر إلا عن قصور في مواجهة مقتضيات تلك المعرفة، ألا وهو الإلمام بمختلف النواحي المرتبطة بالكشف عن الحقيقة. فالعقل البشري في بحته عن الحقيقة، يسلك مسالك معينة هي دائما واحدة، وإن تغيرت بعض دروبها تبعا لموضوع تلك الحقيقة. هذه المسالك هي دائما واحدة وإن تغيرت تطبيقاتها، يسيطر عليها منطق واحد وهو الوصول إلى الحقيقة تكون علم مناهج البحث:

وهل الحقيقة متعددة؟

وهل العقل البشري واحد أم متعدد؟

وأليس الإثبات يخضع لمنطق واحد؟

على أن هذا لا يعني أن علم مناهج البحث، لو سلمنا بوجوده كعلم مستقل، مطلق لا يعرف الذاتية التي يحددها نوع المعرفة. فقد سبق وأن رددنا بأن موضوع الظاهرة لابد وأن يحدد خصائص المنهاج وبالتبعية إلى حد ما خصائص الأداة. على أن الذي يجب أن نؤكده بهذا الخصوص يدور حول طبيعة علم المناهج كحقيقة فكرية.

 

 

سادسًا: طبيعة علم المناهج كحقيقة فكرية

(1)   أن علم مناهج البحث يعكس التطور الفكري الذي يعيشه المجتمع في اللحظة الزمنية التي ترتبط بها عملية البحث عن الحقيقة، وليس علينا للتأكد من ذلك سوى أن نعود إلى القرن السابع عشر. فترة لا تبعد عنا سوى ثلاثة قرون ونيف، حيث كان العلم الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مرادفا لكلمة التأمل المجرد (أو التدبر بالمفهوم الحضاري الإسلامي)، هو ذلك الذي نستطيع أن نكتشفه من المنطق المجرد. فلو ألقينا بنظرة موجزة إلى المنطق الحديث إذا بنا أمام خصائص تختلف اختلافا كليا عن ذلك المنطق التقليدي الذي خضعت له فلسفة العلوم في التقاليد الغربية حتى الثورة الفرنسية.

(2)   إن المنطق المعاصر يتصف بصفات ثلاث: هو علم مستقل، وهو منطق تجريبي، ثم هو منطق كلي.

المنطق الحديث هو أولا علم مستقل أي يرفض أن يدرج نفسه كأحد أجزاء أو فصول علم الفلسفة. هذا الاستقلال لعلم المنطق لابد وأن يفرض بالتبعية استقلالا مماثلا لعلم مناهج البحث.

ثم هو ثانيا: منطق كلي بمعنى انه يرفض أن يعتمد على علم معين، أو على نوع معين من أنواع المعرفة. بل هو يسعى إلى استغلال جميع وسائل المعرفة للكشف عن أي ناحية من نواحي الحقيقة. بمعنى آخر المنطق المعاصر يجعل من جميع عناصر المعرفة أدوات لخلق البنيان المنهاجي:

(أولاً): هو يعتمد على الأساليب القياسية كالرياضة والإحصاء.

(ثانيًا): وهو يفترض الأساليب التجريبية التي قدمتها لنا العلوم الطبيعية والكيميائية.

(ثالثًا): وهو لا يرفض بل ويتمسك بالمفاهيم الإنسانية التي أوضحت لنا جوانبها وأبعادها الدراسات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية.

ولا يجوز إن نتصور أن هذا المنطق الكلي العام قاصر فقط على نوع معين من أنواع المعرفة، بل هو عام وشامل. ولعل هذا يفسر كيف بدأنا نتحدث لا فقط عن علمية الثقافة الاجتماعية بل عن إنسانية الثقافة العلمية.

ثم هو من جانب ثالث منطق تجريبي بمعنى أنه يعتمد أساسا على الملاحظة والمشاهدة أي هو يرفض أن يجعل استنتاجاته مردها فقط المنطق المجرد، ومن ثم هو يجعل هذا المنطق المجرد يتفاعل مع الواقعة ويرتطم بها فيجعل من الواقعة والقيم التي تستتر خلفها حقيقة ديالكتيكية واحدة.

(3)   هذه العمومية في مادة مناهج البحث ورغم أنها تنبع من طبيعة مقوماتها لا تمنع من أن التطبيق يفترض النسبية سواء في المنطق ذاته، سواء في الأداة المستخدمة للإمساك بالحقيقة. إن منهاجية البحث مقيدة بكل زمان ومكان، أو بعبارة أخرى، أدق بالظروف التي تبلورت خلالها الدلالات والاستنتاجات، وهذا على خلاف المنطق التقليدي الذي كان يدعي لنفسه القدرة على الوصول إلى حقائق مطلقة.

(4)   رغم ذلك فهذه المناقشة لا تمثل سوى قيمة أكاديمية بحثه. فسواء قلنا بأن هنالك علم مستقل باسم علم مناهج البحث قابل للتطبيق بذاتية معينة إزاء كل نوع من أنواع المعرفة أو قلنا بأن كل نوع من أنواع المعرفة العلمية يجب أن يملك مناهج البحث الخاصة به، فالنتيجة العلمية واحدة.

 على أننا يجب أن نلاحظ من جانب آخر بأن التسليم بالتخصص في مناهج البحث تبعا لموضوع الظاهرة موضع التحليل، يجب ألا يكون مطلقا، بل يجب حتى لو سلمنا به ومع تقبل ما يعنيه ذلك من مخاطر، أن يكون تطبيق ذلك نسبيا، بمعنى ذلك أننا يجب أن نتجه على الأقل إلى جعل تلك المناهج تدور حول "أس للمعرفة" وليس نوع معين من أنواع المعرفة. فالعلوم الاجتماعية بأجمعها أو كما توصف الآن "علوم الإنسان" يجب أن تجمعها فلسفة منهاجية واحدة. ويكفي للتأكد من صحة ذلك أن المنهاجية المعاصرة تدور حول فكرة المقارنة: والمقارنة لا تبرزها فقط عناصر المكان والزمان، بل وكذلك طبيعة الموضوع التي يلقى منها على نفس الموضوع بالإشعاع والإنارة.

هل التحليل السياسي يملك خصائص معينة تربطه وتميزه في آن واحد من حيث علاقته بنظرية مناهج البحث؟

مناهج التحليل السياسي يجب أن تتصف بصفات أو خصائص تربط بين المنهاجية السياسية والمنطق العلمي في المفهوم المعاصر وذلك لعدة أسباب نذكر منها:

أولا: ان منطق التحليل السياسي يجب أن يعكس ذاتية معينة تنبع من منطق الظاهرة السياسية. هو تحليل سياسي وبالتالي هو لغة تخاطب بها الظاهرة السياسية الباحث عن الحقيقة.

ثانيا: على أن الثقافة السياسية فرع من فروع العلوم الاجتماعية تربطها بها لا فقط رابطة تاريخية وإنما أيضا وحدة الموضوع. وهكذا

وهذا يقودنا إلى السؤال التالي:

هل التحليل السياسي يملك خصائص معينة تربطه وتميزه في آن واحد من حيث علاقته بنظرية مناهج البحث؟

مناهج التحليل السياسي يجب أن تتصف بصفات أو خصائص تربط بين المنهجية السياسية والمنطق العلمي في المفهوم الحاضر:

 أولاً: أن منطق التحليل السياسي يجب أن يعكس ذاتية معينة تتبع من منطق الظاهرة السياسية. هو تحليل سياسي، وبالتالي لغته تخاطب بها الظاهرة السياسية الباحث عن الحقيقة السياسية.

ثانياً: على أن الثقافة السياسية فرع من فروع العلوم الاجتماعية تربطها بها لا فقط رابطة تاريخية وإنما أيضا وحدة الموضوع. وهكذا فإن الخصائص العامة التي تسيطر على المنطق الاجتماعي ومنهاجية الظاهرة الإنسانية لا بد أن تتفاعل مع المنطق السياسي تأكيدا أو نفيا إطلاقا أو استثناء.

ثالثاً: والنسبية لا تعني خلق العوازل والانقسام بين مختلف أنواع المنطق العلمي. فالباحث عن الحقيقة واحد، لا يتحدد والمعرفة يجب أن تستخدم جميع مظاهر التقدم الإنساني بغض النظر عن موضوع تلك المعرفة. هنالك خصائص مطلقة تنبع من طبيعة العلم تفرض وجودها أيضا على الثقافة السياسية. وإذا كان وجود هذه الخصائص قد لا يبدو واضحا في نطاق العلوم الاجتماعية، فإنه حاسم وأساس في نطاق علم السياسة. وذلك أن التزاوج الذي نعاصره اليوم بين العلم والسياسة بحيث أضحى رجل السياسة الحركية في حاجة إلى العالم لينصحه ويهديه، والعالم في حاجة إلى السياسي ليحقق أهدافه ومثاليته كان لابد وأن يفرض لغة مشتركة ومنطقاً مشتركا. وهكذا أضحى التزاوج تفرضه لا فقط طبيعة المنهاجية، بل وكذلك طبيعة العصر الذي نعيشه.

رابعاً: هذه الصفة الأخيرة تفسر لماذا يجب أن يسود البحث السياسي ضرورة الجمع بين التجريب والتجريد بمعايير متساوية. يجب أن نتذكر منذ الآن إطلاقية هذه القاعدة في جميع نواحي المعرفة السياسية. وسواء جعلنا نقطة البداية التجريب، بمعني الاتصال المباشر بالحقيقة، ثم الانتقال تدريجيا إلى التصوير الذهني لهيكل تلك الحقيقة حق نستطيع صياغتها في شكل قانون مطلق عن طريق التدرج التدريجي، أو جعلنا نقطة البداية هي النواحي المنطقية المطلقة في شكل افتراض يكتشفه العقل أو الإيحاء ثم نلجأ إلى الواقعة نسألها صحة ومدى ذلك الافتراض فلابد من الجمع بين الناحيتين في تحليل الظاهرة سياسية.

خامساً: كذلك الطبيعة الاجتماعية للتحليل السياسي تفرض الديالكتيكية في المتابعة المنهاجية: الانتقال المتتالي المستمد من الواقع إلى تأكيد الافتراض، ومن التأكيد إلى خلق التجربة، ومن مدلول خلق التجربة إلى تقييد الافتراض الذي تم بناؤه، ومن ذلك الافتراض وقد تم بناؤه إلى تعميم التجربة ومن مفهوم تلك التجربة في عمومياتها إلى وضع النظرية في إطلاقاتها، هو أحد خصائص التحليل الاجتماعي الذي لابد وأن يثبت وجوده أيضا في بناء النظرية المنهاجية السياسية.

سادساً: كذلك الغاية النهائية من البحث العلمي وهي الكشف عن القوانين العامة التي تحكم الظاهرة موضع التحليل. وحتى تستطيع المعرفة أن تملك تلك القوانين فإنها لا تستطيع أن تصف نفسها بأنها تملك صفة العلم في معناه الحقيقي. هذه القوانين هي التي تسمح لنا بالتنبؤ والتي تمكننا من تصور المستقبل لو تحددت مقومات معينة من حيث الزمان والمكان.

هذا هو المعنى الحقيقي للمنهاج العلمي، وهذه هي القيمة العلمية للثقافة العلمية، كذلك التحليل السياسي يجب أن يضع في اعتباره أنه لابد وأن يصل إلى اكتشاف تلك المجموعة من القوانين التي سوف يمكنه من التنبؤ بالأحداث وبنتائج تلك الأحداث.

 

 

سابعًا: موقع منهاجية التحليل السياسي من فروع علم السياسة

وإذ نسلم بأن منهاجية علم السياسة هي جزء لا يتجزأ من الثقافة السياسية رغم أنها قد تتصف بأكثر من صفة تنبع من جانب من البحث الاجتماعي ومن جانب آخر من خصائص المنطق العلمي المعاصر، فأين نضع هذا القسم من الدراسة في فروع علم السياسة؟

رغم أن تقسيم العلوم السياسية لا يزال موقع تساؤل وشك، إلا أننا في غير هذا الموضع أصلنا التمييز بين فروع خمس: تاريخ الفكر السياسي، النظم السياسية، الرأي العام والحياة السياسية، العلاقات الدولية، النظرية السياسية.

ودون أن نعيد ما قررناه في غير هذا الموضع فإن النظرية السياسية في تصورنا يمكن أن تعرف بأنها الدراسة التجريبية التي تسمح باكتشاف قواعد التحكم في النشاط والتطور السياسي.

وبهذا المعنى فإن النظرية السياسية تتسم وتتصل من جانب بجميع فروع علم السياسية، ولكنها من جانب آخر تقتصر على تلك النواحي المرتبطة بإمكانية التحكم في العملية السياسية. وهكذا تصير النظرية السياسية عامة من جانب وخاصة من جانب آخر. ولعل ما يعكس هذه الصفات هو أن النظرية أساساً من حيث خصائصها هي تجريبية وحركية: فهي تجريبية حيث أنها تقوم على التحليل الواقعي للحقيقة السياسية، وهي حركية بمعنى أنها تسعى إلى الإمساك بعجلة الوجود السياسي ودفعة نحو غاية محددة من قبل ليس من وظيفتها هي أن تقوم بخصوصها- أي تلك الغاية – الكلمة النهائية. كل هذا يفسر لماذا ترتبط نظرية التحليل السياسي بالنظرية السياسية أكثر من أي جزء آخر من أجزاء الثقافة السياسية.

أولاً: فالنظرية السياسية تقوم على أساس التجريب. هي تدرس ما هو قائم وترفض أن تتعرض لما يجب أن يكون. هذه الطبيعة صفة مشتركة مع المنهاحية السياسية في مفهومها المعاصر. فكما سبق ورأينا التحليل السياسي لا يستطيع إلا أن يؤسس منهاجية على أساس المسلك التجريبي.

ثانياً: كذلك النظرية السياسية تفترض التنبؤ، لأن التحكم في النشاط السياسي بمعنى التخطيط والاستراتيجية لا يمكن أن يتم إلا عقب أن تسبقه عملية اكتشاف للعلاقات الارتباطية واستخلاص للقوانين التي تحكم الحركة ومن ثم تطبيق تلك القوانين على الوجود السياسي وقد تحدد من حيث الزمان والمكان والموضوع بمشكلة سياسية ذات أبعاد محصورة ومقننه فكرياً وواقعياً، وهذا لا تستطيعه إلا إذا استطاعت أن تخلق منهاجيتها العلمية القادرة على تحقيق هذه الأهداف.

ثالثاً: كذلك النظرية السياسية هي ذلك القسط الذي يتجلى فيه ربط العلم بالمجتمع. إن عالم النظرية السياسية هو الذي يستطيع أن يقدم للسلطة المعرفة وأن يمد المجتمع بالمسالك التي تسمح لأي منهما بأن يحقق غاياته وأهدافه. وإذا كان عالم النظرية السياسية يمتنع عن قصد عن أن يحكم على القيم والمبادئ فإن ذلك مرده طبيعة وظيفته. الوظيفة الكفاحية لعالم النظرية السياسية.

وهو لذلك أكثر رجال الثقافة السياسية التحاما بالمجتمع. هذا الالتحاق يفرض عليه تزاوج فكري ومشاركة حركية. وهكذا فمنطق المجتمع المعاصر، منطق علمي تسوده المقاييس الكمية لابد وأن يسيطر على منطق النظرية السياسية.

على أن ذلك لا يعني أن منهاجية علم السياسة سوف تظل جزءا لا يتجزأ من النظرية السياسية. وإذا كان الاتجاه السائد لا يزال يرى في عالم التحليل السياسي صورة فرعية من صور التخصص في التجريد السياسي، بحيث تعتبر المنهاحية السياسية بمثابة المقدمة للنظرية السياسية، فإن هذا لا يمنع من وجود اتجاه آخر بدأ يسود ويجب أن نتقبله بالكثير من الرضا والتأييد وهو فصل مناهج البحث عن النظرية السياسية.

والواقع أن جميع التطورات المعاصرة الفكرية تفرض هذا الاتجاه، وهو الفصل بين النظرية السياسية ومنهاجية التحليل السياسي وجعل هذه الأخيرة قسما مستقلا قائما بذاته.

1- أول هذه الأسباب يعود إلى أن المنهاجية السياسية مشكلة تصادف الباحث في أي فرع من فروع علم السياسة. وإذا كان تاريخ الفكر السياسي يصادف الباحث في أي فرع من فروع علم السياسة. وإذا كان تاريخ الفكر السياسي يصادف تلك المشكلة في إيجاد منهاجية يغلب عليها طابع المتابعة الزمنية، وإذا كان تحليل النظم السياسية ينبع من المنطق القانوني، فأن هذا التميز في ذاته وهذا التجديد في المسالك هو أحد الأجزاء الأساسية التي يتميز بها علم مناهج البحث ويحدد أبعادها ويرتب نتائجها. فعلم مناهج البحث في التحليل السياسي أحدي وظائفه اكتشاف ذلك القسط العام الذي يميز كل فرع من فروع علم السياسة من حيث قواعده المنهاجية.

2- ثم هناك عامل أخر يرتبط بالعلاقات الدولية. لقد ظل هذا الميدان حتى وقت قريب، كما سبق ورأينا يمثل الجزء الفقير والجانب المشلول من فروع علم السياسة.

فعلماؤه واحد من ثلاثة: (1) إما مؤرخ ممن يعيش في الماضي وأن تعرض للحاضر فهو يتناوله بروح المتابعة الزمنية مهما ارتفع في منهاجيه فلابد وأن يكون سردا للوقائع والأحداث، (2) وأما قانوني يعيش في عالم من الأصنام ولا يرى سوى قوالب ونظم جامدة يحيا فيها ومن أجلها. كلاهما دخيل على الثقافة السياسية وغير أصيل في التحليل العلمي، (3) يقف في مواجهتهما باسم التجديد، أولئك الذين ينتمون إلى المدرسة السلوكية حيث ينقلون إلينا علم النفس بصورة أو بأخرى جاعلين دراستهم تقوم على أساس جعل السلوك الفردي أو الجماعي وحدة منطلق للتحليل. حقا أن أحد علماء السياسة عقب على متابعة لأشهر المؤتمرات المتخصصة في العلاقات الدولية بقوله: رأيت علماه ينتمون إلى جميع النشاطات سوى الثقافة السياسية.

هذا الوضع بدأ يتغير خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وإذا كنا لا نستطيع أن نتناوله في هذه المجال بالتفصيل، فيكفي أن نؤكد بعض ملامحه العامة، ففي أوائل الستينات من القرن العشرين ظهر ذلك المؤلف الجماعي الذي أشرف عليه العالم الأمريكي. روزينسية. حيث خصص قسما مستقلا قائما بذاته يكاد يتناول عشر المؤلف عن أدوات التحليل. ولم تكن هذه سوى نقطة البداية فسرعان ما أعقبة محاولات أخري أحداها الطبعة الثانية لنفس المؤلف السابق ويكفي المقارنة بين هاتين الطبعتين لنلمس مدى التطور الرهيب الذي أصاب علم العلاقات الدولية في خلال هذه الأعوام العشرة. فالجزء الذي لا يتناول المناهج ظل تقريبا على حاله دون تغير فإذا انتقلنا إلى النواحي المنهاجية وجدنا أنها تضخمت، فبعد أن كانت ستة فصول في الطبعة الأولي زادت عن ضعف هذا العدد في الطبعة الثانية. الذي يعكس هذا التطور، يعبر عنه مؤلف آخر جماعي بإشراف العالم الأمريكي"سنجر" الذي صدر منذ عدة أعوام بعنوان "السياسات الدولية الكمية". اشترك في وضعه أربعة عشر عالما ليس من منهم واحد لا ينتمي إلى علماء السياسة.

وفي خلال ذلك كان عالم النظرية السياسية "دويتس" يدق أبواب علم العلاقات الدولية بثقة وثبات". فهو يبدأ في مؤلفه "العصب الحكومي" معلناً غايته وهو تقديم نظرية عامة تحكم النشاط السياسي الداخلي والدولي. ثم يعقب ذلك بمؤلف ثان عن تحليل العلاقات الدولية يرفض فيما أن يجعل مسالكه وأدواته سوى المنطق المستمد من تأصيل النظرية السياسية. كل ذلك أثبت أن علم العلاقات الدولية أضحي عليه بدوره أن يخلق مناهجه بعبارة أخري أن يستقبل التقدم الذي خلقته النظرية السياسية في نطاق المنهاجية التحليلية وأن مستقبل هذا العلم قد تحدد وسوف يتحدد بقدرته على استيعاب وتطبيق المنهاجية العلمية. وكان من الطبيعي إزاء هذا التطور أن تنفصل المنهاجية عن النظرية السياسية لتستطيع أن تحتضن أيضا علم العلاقات الدولية.

         ساعد على هذا التطور حدوث تفتت في جسدا النظرية السياسية ذاتها. فهذه كانت تشمل أساسا أجزاء ثلاث: التحليل السياسي، السياسة التنظيمية، ثم ديناميات الحياة السياسية. وقد أنفصل هذا القسم الأخير باسم نظرية الرأي العام والحياة السياسية مكونا جزءا مستقلا من أجزاء الثقافة السياسية. وهكذا أصبح من الطبيعي، وفي هذا المعني، أن تسير جميع التقاليد المعاصرة في الجامعات الأمريكية وبعض الجامعات الأخرى، أن يستقل أيضا القسم الأول باسم علم مناهج التحليل السياسي.

عوامل عديدة تفرض علينا أن نسلم باستقلال علم مناهج التحليل كفرع قائم بذاته في نطاق الثقافة السياسية.

 

ثامنًا: نظرية المنهاجية السياسية- المتغيرات:

عملية البناء لنظرية المنهاجية السياسية كونا تواجهها تنبع من أبعاد مختلفة لا تتفق مع تلك المدارس التي سبق وأوجزنا خصائصها.

أولاً: استقلال الثقافة السياسية.

ثانياً: السعي نحو تأكيد وبناء عملية منهاجيه السياسية.

ثالثاً: الإيمان بالصفة الحركية العالم النظرية السياسية.

رابعاً: التسليم بأن احد أبعاد هذه الحركية يجب أن يكون طبيعة المجتمع وبالتالي مشاكله. هذه الإبعاد الرابعة في حاجة إلى قليل من التفصيل.

(أولا) الثقافة السياسية ثقافة مستقلة عن الثقافات الاجتماعية الأخرى. ورغم أنها تتلاقي مع تلك الثقافات تاريخياً وموضوعيا إلا أنها تختلف عنها اختلافا واضحا من حيث أبعادها وطبيعتها. لقد نشأت الثقافة السياسية أحضان علم القانون، وتطورت مرتبطة بالفلسفة وساعد على اختلاطها بالعلوم الأخرى طبيعتها لقرن التاسع وأثاره على العلوم الاجتماعية: في خلال ذلك القرن كما تحطمت الحواجز بين الشعوب انهارت الفواصل بين الثقافات. وكان لهذا الانهيار الآثار الطبيعية والأخرى السيئة. ومن أثاره السيئة أن اختلطت الثقافة الاجتماعية وبصفة خاصة الثقافة لنفسية. ولكن من بين أثاره الطيبة أن تعانقت الدراسات المتعلقة بالنظم مع تلك المرتبطة الأفكار والمبادئ. وهكذا حدث ذلك التزاوج بين الأبعاد الفلسفية وما ترتبطه من قيم الحقائق الموضوعية وما ترتبط به من وقائع. وكان هذا مدعاة الإثارة: ما هو وأين علم السياسية من الثقافة الإنسانية؟

الثقافة السياسية يجب أن تستقل عن الثقافات الأخرى دون أن تلغي علاقاتها بتلك الثقافات. أسلوب تنظيم هذه العلاقات هو أيضا أحد أهداف تأصيل النظرية منهاجية علم السياسية. ويكفي أن نتذكر بهذا الخصوم كيف أن الظاهرة السياسية بطبيعتها ظاهرة كلية. تتجه إلى المستقبل، نتيجة إلى استيعاب الظواهر الأخرى، تسيطر عليها النواحي الأيديولوجية وهي جميعها خصائص تميز موضوعها عن أن ظاهرة اجتماعية أخري ولا بد أن تعكس منهاجيتها تلك الخصائص.

كذلك فنحن نؤمن الصفة العلمية للثقافة السياسية. أن ما سأتعلم السياسية ليست في أنه لم ترتفع بعد التي المستوى العلمي وإنما هي أن من يحول السياسة لا يملك أسلحة وهنا لا نستطيع أن ننسى المسئولية الخطيرة التي فادت إليها النظم النيابية. فيدعون عملية التمثيل السياسي وصل إلى الحكم أولئك الذين لا يملكون أي خلفية علمية للثقافة السياسية تسمح للتعامل مع ظاهرة السلطة إلا من منطلق الغوغائية الجماهيرية.

وأضحى أحد تقاليد البرلمانية أن يكون القائد الحاكم غير مؤهل سياسيا. وكم من مرة تساءل العلماء: إذا كنا لا نقبل أن نعهد عملية ولو بدائية في المجتمع السياسي إلا لذلك الذي اعد لهذه المهنة، فكيف نقبل القائد الذي يتخذ قرارات تفرض ثقلها على تطور الجماعة إلا يكون مؤهلا بأسلحة الثقافة السياسية؟

هذه المشكلة تزداد وضوحا في المجتمعات المعاصرة ولا استثناء ما يسمى بالدولة العصرية المتقدمة. أن تعقيد العالم المعاصر ربما فرض من مشاكل كان لابد أن يقود إلى تلك الظاهرة التي نعيشها والتي تعاني منها جميع المجتمعات وبلا استثناء وهي الهوة الحقيقة التي تفصل القائد السياسي عن طبقة العلماء حيث كلا منهما يملك خصائص مختلفة ومواقف متباينة من التعامل السياسي. القائد السياسي لا يزال رجل الجماهير وثقافته ضيقة وقدراته محدودة. مشاكل العالم المعاصر معقدة تفرض فقرة معينة ومستوى معين من المعرفة العلمية- طبقة العلماء في أغلب الأحيان تبتعد عن السلطة وتعين منها وإزاءها في حالة تسودها السلبية وعدم الاهتمام. كيف يمكن تخطي تلك التناقضات؟ مشاكل معقدة لا يستطيع أن يقول بخصوصها الكلمة النهائية فقط السياسي، قيادات سياسية يغلب عليها الطابع الجماهيري، طبقة العلماء التي تعيش بمعزل عن التعامل السياسي؟ وتأبى المشاكل إلا أن تتعقد عندما نكتشف أن جميع المشاكل العلمية خافية بحيث يصير المسرح واسعا مستعار يسمح من خلال التلاعب بالألفاظ والإرادات وبصفة خاصة عندما ينتفي حسن النية أن يصير أي حل ممكن دون اهتمام بدواعي الأمن القومي بالمصالح العليا التي يجب أن تكون وحدها محور التقييم ومنطلق صنع القرار.

ولعله من العجب أن نلاحظ بهذا الخصوص كيف أن جميع النظم المعاصرة قادت- بطريق أو بآخر إلى تدهور الثقافة السياسية: رأينا النظم الديمقراطية ولكن النظم الأيدولوجية لا تقل عنها مسئولية.

من يستطيع أن ينكر أن الرابطة التي تربط النظم النازية بالنظم الشيوعية هي محاولة كل منهما أن يصيغ وجوده بأيدولوجية مكافحة؟

الأولي: كفاح الأجناس،

الثانية: كفاح الطبقات.

والأيديولوجية هي خطة للحركة. ولكنها خطة تحمل ولو في قسط معين نوعا من التبرير العاطفي للحركة السياسية. كذلك التكنولوجيا ألقت بدلوها في دفع الثقافة السياسية إلى غير موضعها من التأهيل العلمي. وقد يبدو هذا متناقضا مع ما سبق وقررناه: أليست العلمية هي الالتجاء لأساليب التحليل الوضعية التي استطاع العلم التجريبي أن يوصلها؟

الواقع أننا لا يجوز لنا أن نخلط بين أساليب جمع المعلومات وأساليب بناء الإطار الفكري للتحليل السياسي. وإذا كانت التكنولوجيا قد استطاعت أن تقدم لنا أساليب لجمع المعلومات ولتبويبها. لم يقدر لأي مفكر سياسي قبل اليوم أن يحصل عليها فأن هذه لا يعني أن تلك الأساليب تستطيع أن تغني عن عملية بناء الإطار الفكري للتحليل السياسي. ولعل هذه الحقيقة لم يكتشفها الفكر السياسي الأمريكي إلا في خلال الأعوام الأخيرة. فرغم جميع إمكانياته التي تبدأ من السعة في الإنفاق حتى توفر جميع الأدوات والعقول الالكترونية فضلا عن بنوك المعلومات، لا يزال يقف عاجزا عن أن يتعدى تلك المرحلة. مرحلة تراكم المعلومات أما تقديم التفسير الكامل الواضح لأي ظاهرة سياسية أو بعبارة أخري الانتقال من التجريب إلى التجريد في معناه الحقيقي فهو لا يزال يعلن عجزه وعدم صلاحيته بدلالة إخفاقه عن تقديم مظاهر التعبير عن الوصول إلى ذلك المستوى من مستويات التحليل.

إن السياسية هي اهتمام الرجل الحر ووجودها هو علامة الحرية. السياسة هي أسلوب قيادة المجتمع السياسي برضا جماعي ودون إكراه. ولذلك فعلم السياسة لا يمكن أن يكون إلا علم الحضارة. وهكذا عملية الثقافة السياسية يجب أن تنبع من هذه الحقيقة. على أن مأساة علم السياسة الحقيقية هي أن لا يجب أن يحارب فقط خصومه بل أيضا أصدقائه و أصدقائه هم أولئك الذين يزعمون العلم دون أن يملكون أدواته هل يتعين علينا لتأكيد هذه الدلالة أن نتابع أساتذة الجامعات الذين يزعمون التخصص في علم السياسة بالتحليل من حيث مؤهلاتهم وكفاءتهم الأكاديمية؟

عامل ثالث لابد وأن يتداخل في عملية بناء الأصول المنهاجية لعملية التحليل السياسي، ألا وهو العلاقة بين الحركة والفكر في نطاق النشاط السياسي لقد ظل العالم يفصل بين الفكر والحركة ويرى أن الفكر الذي يعني التأمل والحركة التي تعني مواجهة الواقع ورغم أن كليهما يرتبط بظاهرة السلطة، إلا أن أيا منهما مستقل عن الأخر وظل الأمر كذلك حتى القرن التاسع عشر وكان من أثر انهيار الحواجز أن انهارت الفواصل التي تفصل بين الفكر والحركة. وكان كارل ماركو أول من تلقف نتائج هذه التطور في الحضارة المعاصرة.

       ومنذ تلك اللحظة فإن جميع الصور التي قدمتها الإنسانية للوجود الأساسي لم تكن إلا دفعا لخلق العلاقة الوثيقة بين الفكر بالحركة. ورغم أن "ماركس فير" وقف يندد بتلك العلاقة ويعلن بصراحة وقسوة أنه لا موضع للسياسية في قاعة العلم حتى ولو كان موضوعها ظاهرة، فإن الحرب العلمية الثانية قدمت لنا نماذج جديدة من التلاحم بين الفكر والحركة. لم يتصور "ماكس فير" سوى صورتين من صور العمل السياسي: إما أن تعيش" من اجل السياسة وإما أن تعيش "بالسياسة" الصورة الأولي هي النشاط بمعني المهنة التي ترتبط بالحركة وتعني السعي نحو السلطة. أما الثانية فهي العمل الأكاديمي حيث يصير الوجود الفردي وقد تركز حول التأمل الوصفي لظاهرة السلطة وهنا يقول "ماكس فير" عبارته المشهورة السياسة لا موضع لها في قاعة محاضرات أي جامعة، سواء من جانب الطلبة أو من جانب الأساتذة، وبصفة خاصة عندما يتناولون علمياً تحليل المشاكل السياسية فالعالم ليس قائد أو ليس رئيسا. والقيم التي منها تنبع مواهبه تختلف اختلافا كليا بل وتتعارض مع القيم السياسية. ولكن التطورات المعاصرة قدمت لنا صورة ثالثة وهي ذلك الذي يحيا" داخل السياسة" وهذا هو خبير السلطة. إن السياسة على مستوى العلم لا تزال تتميز عن السياسة على مستوى الحركة ولكن تجمعهما صورة واحدة بفضل هذه الصورة الجديدة من صور التخصص في العمل السياسي إلا وهي عملية الثقافة السياسية.

على أننا إذ نصل إلى هذه النتيجة يتعين علينا أن نتذكر أن العلمية بدورها تتقيد بالوسط الذي في إطاره يتحرك رجل التحليل السياسي. إن التحليل السياسي ليؤدي وظيفته في حاجة لشروط عديدة، وأهم تلك الشروط التسليم بأن الحقيقة من الممكن أن تكتشف وأنه من الممكن الإخبار بها. وهذا يعني الحرية في التقدير والتقييم من جانب ومن جانب آخر إمكانية الوصول إلى المعلومات الحقيقية. وهي شروط ترتبط بالإطار العام للمجتمع السياسي: فالتحليل السياسي في مجتمع يملك تقاليده العلمية لا يمكن أن يقارن بنفس النشاط الذي يزاول في مجتمع متخلف لا يزال يرى في الثقافة السياسية نوعا من المواهب الخطابية أكثر من أن تكون نظاما صلبا وصارما في المتابعة المنطقية، وهذه المشكلة لا تبرر في نطاق العلوم الأخرى، ولكنها تصير أحد مصادر مأساة علم السياسة في المجتمعات بصفة خاصة المتخلفة حيث تكون النتيجة الطبيعية لأي وضع مخالف هو الانفصام المطلق بين الفكر والحركة وبالتالي العودة بالإطار العام للتحليل السياسي إلى ما كانت عليه الإنسانية قبل ماركس أو بعبارة أخري أكثر صراحة ووضوحا إلى القرن الثامن عشر.

 

تاسعًا: قواعد التحليل السياسي، عملية جمع المعلومات، عملية بناء الإطار الفكري للتحليل السياسي

نستطيع من العرض السابق أن نصل إلى نتيجة واضحة ومحددة إلا وهي ضرورة - علمية الثقافة السياسية. وعلمية الثقافة السياسية بهذا المعني تصير واجبا على رجل الدولة وليست فقط مجرد مهنة أكاديمية، فكيف نطلب من رجل مؤهل أن يبني منزلا مثلا ولا نفرض هذه الالتزام على ذلك الذي يقود دولة؟ على أن العملية هنا يجب أن تفهم بمعناها المحدد والذي تفرضه طبيعة الوجود السياسي:

(أولاً) العلمية لا تعني القيم.

(ثانياً) والعلمية لها درجات.

(ثالثاً) والعلمية لا تلغي الاستعداد الطبيعي.

(رابعاً) والعلمية قد تقف عند المنهاجية وأدوات التحليل.

كل هذه عناصر في حاجة إلى تحليل. ونحن لنستطيع أن نصل إلى الإحاطة بموضوع ظاهر التعقيد سوف نبدأ فنتناول القواعد العامة التي تحكم التحليل السياسي. ثم إذا انتهينا - من تلك القواعد تناولنا عملية التحليل السياسي في شقيها: جمع المعلومات أولا ثم عملية بناء الإطار الفكري للتحليل ثانيا.

مما لا شك فيه برغم ذلك أننا في انطلاقنا في هذا التقسيم أننا نخضع أساساً لمقتضيات التنظير السياسي أو بعبارة أكثر دقة أننا نتناول التحليل السياسي كأحد أجزاء النظرية السياسية. وإذا كنا قد عرفنا النظرية السياسية في غير هذه الموضع بأنها علم الحركة بمعني اكتشاف قواعد التعامل مع متغيرات الوجود السياسي سواء بقصد التحكم في ذلك الوجود أو على الأقل دفع عجلة التطور نحو مسارات معينة، فمن الطبيعي أن تصير المنهاجية وقد تبلورت وتأثرت بهذا التعريف. النظرية السياسية تنقسم إجمالا إلى قسمين: قيم وتعامل.

 القيم هي الإطار الفكري المثالي لتقييم الوجود السياسي والتعامل هو أساليب تطويع الوجود البشري للتقليل مع تلك القيم. نظرية التحليل السياسي تصير مقدمة بهذا المعنى لكلا هذين الجزأين حيث تكتشف المثاليات وتثبت كيف تتحول تلك المثاليات إلى ممارسة من خلال التعامل التاريخي والمقارنة بين المواقف بحث يستطيع المحلل أن ينتهي لا فقط إلى تقويم الحركة السياسية بل وإلى الإجابة عن كيفية استخدام علم السياسة لتحقيق تلك الأهداف والمثاليات.

سبق أن ذكرنا أن العلمية لا تعني القيم بمعني أن العلمية إذا كانت تستطيع أن- تكتشف القيم فأنها لا تستطيع أن تخلفه تلك القيم. أن القيم هي في عقيدتنا مثاليات مطلقة لا تستطيع القدرة البشرية إزاءها إلا أن تنحي بالاحترام والتقدير. ولكن العلمية قادرة لا فقط على أن تساعد على اكتشاف القيم بل وعلى أن تضع إطار التعامل مع القيم من منطلق المنهاجية المقارنة حيث اكتشاف الخبرة ودلالتها خير منطلق لفهم معني التعامل ومقياس نجاحه، وإذا كانت العلمية لها درجات فإن القدرة على التعامل مع الظاهرة السياسية أننا يتوقف أيضا على قدرات طبيعية قد ولدت أو وجدت مع الفكر البشري منذ تكامله. كما أن ليس كل فرد صالحا لأن يكون طبيبا أو مهندسا فكذلك ليس كل مفكر سياسي قادرا على أن يواجه مشاكل المنهاجية العلمية في التنظير السياسي. وهنا علينا أن نؤكد أن العلمية بأي معني من معاينها لها درجاتها. المنهاجية العلمية بمعني استخدام أدوات التحليل الكمية التي تسمح بقياس الظواهر ويجعل الظاهرة تتحدث بنفسها في لغة مطلقة لا تسمح بالتأويل بما يعنيه ذلك ومن تعميم النتائج هي في ذاتها خطوة أولى قد تعقبها وقد يسبقها نسميه بعملية بناء الإطار الفكري للتحليل الذي يصير مرحلة أخرى أكثر تقدما في التنظير السياسي.

 

عاشرًا: التقاليد المعاصرة في التحليل السياسي والمبادئ الخمس التي تسيطر على الفكر المعاصر وأهميتها بالنسبة للمجتمعات النامية:

إحدى الغايات الأساسية التي يسعى إلى تحقيقها الفكر السياسي المعاصر هي بناء نظرية منهاجية تسمح له بالوصول إلى المعرفة الوضعية للظاهرة السياسية وتحليلها تحيلا كميا وكيفيا يرقي بتلك الثقافة إلى مرتبة المعرفة العلمية. ونستطيع منذ الآن أن نسرع بأن نلخص اتجاهات الفكر المعاصر في تحليل الظاهرة السياسية في خمسة مبادئ يسعى كل عالم تبعا لإمكانية وتبعا لطبيعة موضوع التحليل في تطبيقها جميعها أو بعضها.

1- التعمق في استخدام المفاهيم الفلسفية. فعلم السياسية لا يزال يعيش على الفكر السياسي الإغريقي، لا يزال كلياته تنبع من فلسفة أفلاطون. وذلك العالم السياسي الذي كتب في الجمهورية يقول "إذا ألمت بما في هذا المؤلف فألقي بكل ما عداه لأنك أضحيت تملك علم السياسة"، قد يبالغ ولكن مبالغته لا تلغي الحقيقة. وهي أن علم السياسة لا يزال يستمد إطاره الفكري من التقاليد اليونانية، الاتجاهات المعاصرة لا تلغي هذا التراث ولكنها تسعى إلى تعميقه للإكثار من الفرعيات والإضافة في التطبيقات والتقييد في الانطلاقات ولكنها تؤمن بأن اللغة السياسية هي لغة الفلسفة اليونانية.

2- التحويل الكمي للوقائع وللمدلولات السياسية. فكل واقعة قابلة لأن تعامل باللغة الرقمية. هذه اللغة هي وحدها التي تسمح بالمقارنة وهي وحدها التي تمكننا من القياس: كلاهما عمليتان ضروريتان لإمكانية التعبير العلمي عن المفاهيم السياسية.

3- استخدام التاريخ كبديل لعملية التجريب بمعني افتعال الخبرة وضبطها ابتداء من اختلاقها حتى نفاذها زمانا ومكانا. فالظاهرة السياسية لا يمكن افتعالها وإلا كيف نتصور أحداث ثورة على سبيل التجربة مثلا؟ يأتي التاريخ أو بعبارة أخرى الخبرة الماضية فيصير بمثابة حقل للتجارب يسمح بأن يغطي ذلك النقص الذي تفرضه الظاهرة موضع التحليل.

4- وإذا كان أسلوب التحليل العلمي بمعني اقتطاع الظاهرة وافتعالها وضبطها زمانا ومكانا أي بمعني التحكم الإرادي في متغيراتها جزءا أو كاد ترفضه طبيعة الظاهرة السياسية، إلا أن هذا الأسلوب تقبله بعض التطبيقات الجزئية المرتبطة بظاهرة السلطة كظاهرة الإشاعة أو ظاهرة القيادة أو الظاهرة الجماهيرية. في هذا النطاق أي حيث يمكن تصور أسلوب خلق التجربة يصير الأسلوب العلمي مصدرا تكميليا ليؤكد أو يفيد نتائج التحليل.

5- على أننا عندما نصل إلى حيز البناء الفكري للتجريدات التي تسمح بتعميم النتائج والتنبؤ بالأحداث أو ما يترتب عليها نظير عملية بناء واستخدام النماذج الرياضية إحدى الأدوات الأساسية في خلق وتنظيم المنطق السياسي. ورغم أن هذه الناحية لا تزال تخطو خطواتها الأولى، إلا أنها في خلال الأعوام الأخيرة استطعت أن تثب وثبات عنيفة سواء في نطاق تحليل النشاط السياسي أو نطلق الدراسة العلمية لظاهرة العلاقات الدولية. وعلى كل فان عملية بناء النموذج قد استطاعت من خلال التعامل مع المنهاجية التاريخية أن تقدم تطبيقات عديدة تملك دلالتها بحضور بناء منطق الحركة السياسية.

ولكن الذي يعنينا أن نذكره منذ الآن هو أن إحدى القواعد العامة التي تسيطر على التحليل السياسي والتي تميز التحليل السياسي بصفة خاصة عن التحليل الاجتماعي بصفة عامة هي ضرورة التعدد في أدوات البحث وأنه كلما تعددت الأدوات في البحث الواحد أو إزاء مشكلة بعينها، فأن ذلك التعدد في ذاته خير ضمان لدقة النتائج بحيث يصير نوعا من أنواع الضبط الذاتي لنتائج التحليل. فيما لاشك فيه أن عملية ضبط النتائج هي إحدى العلامات المميزة للبحث العلمي عن غيره مما لا يمكن أن يعكس الطابع العلمي. وعملية الضبط العلمي هذه تخضع لقواعد صريحة وواضحة في نطاق العلوم الطبيعية. ولكن في إجراؤها. تحدد الأدوات يصير في ذاته وسيلة للضبط حيث أنه إما أن يصير مصدرا لتأكيد النتائج ومن ثم لتعميم إطلاقاتها أو لتقييد مدلولها وتحديد استثناءات القاعدة العامة.

وبعبارة أخرى إذا وصلنا إلى نفس النتائج عن طريق أدوات متعددة فإن هذا ضمان لصحة ما وصلنا إليه من نتائج بحيث أن كل أداة تضبط الأدوات الأخرى. أما إذا جاءت النتائج مختلفة ومتباينة فإن هذا يفرض علينا التساؤل والحقيقي لاكتشاف مصدر هذا التباين، وهذا بدوره وسيلة من وسائل الضبط.

على أن هذا لا يمنع من أن نلاحظ:

1-              أن طبيعة المشاكل قد تفرض استبعاد أحد هذه الأدوات أو بعضها أو تغليب بعضها على البعض الآخر. فتحليل النظام السياسي مثلا لا يتصور استخدام أساليب التحليل المعملي. وتحليل السلوك السياسي يفرض التحويل الكمي للوقائع والمداولات السياسية والدراسة العلمية للظاهرة الأيديولوجية لا تستطيع أن تتجرد من النواحي الفلسفية التاريخية.

2-               كذلك كلا من هذه الخصائص الخمس لها موضعها في مراحل التحليل فالتحليل السياسي يفرض نتائج موضوعية ابتداء من بناء استراتيجية البحث حتى بناء النظرية واستخدام نتائجها. وكل من هذه القواعد الخمس له موضعه من تلك المراحل: فوضع خطة البحث يفترض استخدام القاعدة الأولى أي الالتجاء إلى المفاهيم الفلسفية لبناء إطار التحليل. على العكس من ذلك فإن بناء واستخدام النماذج الرياضية يفترض الوصول بالبحث إلى مرحلة متقدمة حيث نصير قد وصلنا إلى عملية بناء النظرية التي تستطيع تفسير الظاهرة موضع التحليل.

ج- وأخيرا يجب أن نلاحظ أن الالتجاء إلى هذه أو تلك من القواعد السابق ذكرها يتوقف كذلك على قدرة العالم السياسي. ولعل هذه هي المأساة الحقيقة التي تصادف علم السياسة. فالمشتغل بالثقافة السياسية لا يزال يصل إليها إما عن طريق المصادفة وإما لاهتمامه بالعمل السياسي. وفي كلا الحالتين فإن مواجهته للتحليل السياسي إما إنها ليست أصلية أو تسيطر عليها القدرة الخطابية. وهكذا هو يوفر المنطق الرياضي الإحصائي ومثل هذا المنطق في حاجة إلى تنمية وتعود منذ الطفولة لأنه كاللغة لا يمكن أن يكتسبها المرء في فترة معينة من فترات حياته. وهكذا يقف إزاء هذه العقبة في حالة أقرب إلى اليأس وبطبيعة الحال النتيجة يجب أن نتوقعها: ففاقد الشيء لا يعطيه. وهكذا يتهرب عالم السياسة من مشكلة الحقيقة فيزعم بأن الظاهرة السياسية لا تقبل التحليل العلمي. وتبدو هذه الظاهرة واضحة بين المشتغلين بالثقافة السياسية في المجتمعات المتخلفة. لا فقط أن التخلي يفرض أبعادا مختلفة للتحليل السياسي بحيث يجعل منه مهمة أكثر صعوبة ولكن لأن التعليم العام في تلك البلاد لا يزال حتى هذه اللحظة يعيش في تقاليد القرن الماضي حيث يتصور ويفترض أن الثقافة الأوربية لا تعرف بل وترفض المنطق الرياضي.

من هذا تنبع مأساة علم السياسة في المجتمعات النامية. وهي مأساة لن نستطيع أن نتخلى عنها إلا إذا وضعنا أسس خلق جيل جديد يقدر له ما لم يقدر للجيل السابق من أسلحة الكفاح في سبيل الوصول إلى الحقيقة. وهي مأساة رغم أنها ليست قاصرة على علم السياسة إلا أنها تصير في هذا الميدان أكثر خطورة: فالمجتمع النامي وهو مجتمع ديناميكي يسعى للتخلي عن التخلف هو في أشد الحاجة إلى مساهمة الباحث السياسي عمليات التطوير غير التلقائي بحيث بنودها ويعكس مقتضياتها دون أن يقيد أفقه بالخبرة المحلية.

ويكفي أن نتذكر المشاكل التالية:

أولاً: عمليات التنبؤ وإعداد السياسة الخارجية.

ثانياً: عمليات التخطيط الدعائي لمواجهة الخصوم السياسيين وبصفة خاصة في النطاق الدولي وما يرتبط به من خلق للثقة أو إزالة للصورة المشوهة.

ثالثاً: عمليات التوعية والتثقيف السياسي حيث تصير عملية الاتصال والمشاركة احد النقائض الواضحة تخلق حالة شلل في الحركة السياسية.

رابعاً: عمليات التغير السياسي وما يرتبط بها من حدود ومسالك.

خامسا: عمليات البناء السياسي بما يتضمنه من إقامة ما نتحدث عنة اليوم باسم الدولة العصرية.

فكيف يستطيع عالم السياسة أن يشارك في كل هذه العمليات وهو لا يزال يستخدم أسلحة العصور الوسطى؟ إن مجرد إلقاء نظرة عابرة على مؤلف باللغة العربية لتاريخ الفكر السياسي أو تحليل نظرية العلاقات الدولية لا يمكن إلا أن يدعو لكثير من الألم. لقد اتفق المتخصصون في علم السياسة على أن التحليل السياسي يجب في بناء إطاره أن ينبع من مشاكل كل مجتمع حتى ولو لم يتقيد الاجتماعات التي يجب أن يعكسها مؤلف في العلاقات الدولية يكتبه أمريكي لا يمكن أن يعكس فنفس الاجتماعات التي يجب أن يعكسها مؤلف يكتبه عالم هندي. فإذا كان المحور الأساس في تحليل العلاقات الدولية من منطلق أمريكي.هو تفسير القيادة الأمريكية للعالم المعاصر ووصول الفكرة الجديدة إلى مركز النقل الأساس في تشكيل إطار التعامل الدولي والتوازن بين القوة العالمية ثان محور كتابة في العلاقات الدولية يكتبه عالم هندي لا يمكن أن ينطلق إلا من مفهوم العالم الثالث وكتلة عدم الانحياز وموقع المحيط الهندي في الإستراتيجية الكونية. مدركات قد تكون واضحة ومفاهيم قد تكون مشتركة ولكن عملية بناء الإطار الفكري يتبعه ذلك من تنويع في الجزئيات وترتيب في الاستفهامات وتحصيل في التحليلات لابد وأن تختلف. كذلك فأن مؤلفا في التنظيم السياسي تسجله عبقرية الأوروبيين لا يمكن أن يتفق أيضا في إطاره العام وفي مدركاته الكلية مع دراسة في النظم السياسية تعكس الطابع الإفريقي على سبيل المثال. فإذا كانت الوحدة الحضارية والاستمرارية التاريخية والتتابع الزمني والتجانس النظامي يخلق إطارا من المدركات في الحالة الأولى فإن التطبيق الثاني لابد وأن تقود. مدركات أخرى بل ومتباينة. وإذا كنا نعلم بأن هدفنا هو خلق القدرات العلمية العربية على وجه التحديد فإن هذه المشكلة تصير أكثر خطورة وأكثر تعقيداً.

ولنتذكر على سبيل المثال هذه الخصائص التالية:

(1)            الصراع الدولي في المنطقة العربية يطرح بشكل واضح ويثير طريقة صريحة قاطعة لا فقط مشكلة قدرة الإدارة الإقليمية على التحكم في الذات من عدمه بما يعينه ذلك- من خصائص وطبيعة الساسة الإقليمية بل وكذلك يصيرا المنطلق الأساس يصير النظام الدولي الإقليمي التابع وخصائصه التي يفرضها التجانس القومي والتكامل الإقليمي. ويأتي الوجود الإسرائيلي فيزيد من تعقيد عملية بناء الإطار الفكري لتحليل العلاقات الدولية في المنطقة.

(2)            النظم السياسية العربية وما يترتبها بعملية الإصلاح السياسي في المنطقة. وهنا كل محاولة لبناء إطار فكري لهذا التحليل من منطلق تقالية غربية. أو عرقية لا يمكن إلا أن تنتهي بالفشل. أن المنظمة العربية تمثل استمرارية تاريخية ولكن باطنة وتعكس السياسة اليوم عاجزا عن أن يكتشفه. المأساة الحقيقة بهذا الخصوص عندما أن علماء أوروبيين قد اكتشفها هذه الحقيقة ولمسوها ولا يزال الفكر العربي يقف إزاءها في حالة من الضعف والتخاذل التي تدعو إلى الأسى والحزن؟

(ج) ثم يكمل ذلك ولو على سبيل المثال ما أسميناه في غير هذا الوضع الوظيفة القومية لإحياء التراث السياسي. مشكلة أخرى لا تعرفها أن جماعة معاصرة متقدمة أو متخلفة وهي في حاجة إلى بناء منطلق فكري منبع من طبيعتها وذاتيها.

أيضا هذه النواحي المختلفة سوى ندخلها في الاعتبار عند يتعين علينا عملية اختيار النماذج المتعلقة ببناء الإطار العربي للتحليل السياسي.





تعليق طباعة عودة للخلف

عدد القراء: 124

عدد التعليقات: 0
مواضيع ذات صلة

 

        تعليقات الزوار

Contact Us

feel free to contact us at our Email : kamaltopic@gmail.com

Dr. Kamal Mobile is :+970599843850

رؤية وأهداف

نهدف من خلال موقعنا إلى تزويد الطلاب والباحثين والمهتمين بخدمات علمية مجانية عالية المستوى ونشر أبحاث ودراسات اكاديمية

الدكتور كمال الأسطل,

Missiion Statement

Our goal is to provide students, researchers and interested people with high standard, free of charge scientific services and to publish academic researches.

Kamal Astal,