• كلمة الدكتور

    كلمة الدكتور كمال الأسطل:

    نسعى جاهدين لدعم الطالب الفلسطيني في كافة المجالات ، واستغلال التكنولوجيا المعلوماتية لذلك قمنا بانشاء الموقع الالكتروني , ويحتوي على مميزات عديدة من اجل ...
  • التفاعل والمشاركة

  • CV - السيرة الذاتية

الأربعاء04-10-2023

الفصل السادس - العلاقة بين المتغيرات وعملية التحليل السياسي - الشامل في نظرية وهندسة التحليل السياسي

 تاريخ النشر: 8/7/2023   وقت 9:41:08 صباحا   | طباعة |  ارسل لصديق

العلاقة بين المتغيرات وعملية التحليل السياسي

 

أولاً: الأبعاد المختلفة لمشكلة العلاقة بين المتغيرات في تحليل ظاهرة السلطة:

تتكون الظاهرة السياسية كأن ظاهرة أخرى من العديد من المتغيرات بعضها أصيل وبعضها تابع، بعضها دائم وبعضها مؤقت، بعضها شكلي وبعضها موضوعي وعملية التحليل السياسي كأي عملية منطقية تسعى لاكتشاف طبيعة الظاهرة لا بد وأن تملك أدواتها التي تسمح لها بتحقيق هدفين:-

1- تحديد المتغيرات أي اكتشاف كل من تلك العوامل التي تنبع وترتبط وتحدد ظاهرة الوجود السياسي.

2- ثم أهم من كل ذلك ما هي طبيعة العلاقة بين كل من المتغيرات هل هي علاقة سببية أم علاقة ارتباط بأي علاقة تأثير وتأثر؟

كل هذه أسئلة يثيرها أي علم ولا بد أن وتثيرها أي ثقافة علمية. وعملية تفسير الظاهرة السياسية وقد أبرزناها على أنها تتمتع لمنطق ذاتي يجب بدورها أن تثير هذه الأسئلة وتجب عليها إجابات واضحة.

على أن الواقع أن الإجابة على هذه السؤال تعنى الإلمام بكل عناصر المنهاجية السياسية، وليس فقط النواحي الفلسفية للتحليل السياسي. كذلك يجب أن نلاحظ أن هذا الموضوع بالذات أي عملية تحديد العلاقة بين المتغيرات التي منها تتكون ظاهرة السلطة ترتبط ارتباط وثيقا بالنظرية السياسية. فالنظرية السياسية هي وحدها التي ترتفع إلى مستوى القوانين العلمية التي تمكن خبير السلطة من أن يتحكم في التطور السياسي تفترض مستوى معين من التحليل لا تستطيع أن تصل إليه مختلف فروع علم السياسة الأخرى وهو ذلك المستوى الذي يفترض أثاره مشكلة العلاقة بين المتغيرات.

التحليل السياسي بهذا الخصوص يتابع التقدم العلمي الذي حققه التحليل الاجتماعي ولكنه أيضا يتخطاه في بعض النواحي كما هو حادث بالنسبة لفكرة الدورة في التحليل السياسي ويتميز عنه في نواحي أخرى كما سوف نرى بخصوص مفهوم نسبية التحليل السياسي، ثم هو لا يتردد في نواحي ثالثة من أن يستغل الإمكانيات المحدودة التي تتيحها له الحياة المعاصرة في بناء أطار منهاجي لا يجوز التحليل الاجتماعي على أن يواجهه.

فلتتابع كل ذلك بشيء من التفصيل

على أننا قبل أن نسترسل في تحليل ولو بتتبع عملي هذه العلاقة بين المتغيرات وموضعها من نظير المنهاجية السياسية علينا أن نذكر القارئ بأهمية هذه العملية من الناحية التطبيقية وكيف أنها قادرة إلى الخلط بين خبير السلطة وعلم التنظيم السياسي فخبير السلطة لا فقط بمعنى مقدم الخبرة السياسية من منطلق علمي ولكن بمعنى الباحث للتعامل السياسي وبصفة خاصة عندما تصير عمليته هي مشكلته للوصول إلى التعامل اليوم على الممارسة بحيث يدعى إلى إدارة الصراع السياسي لا بد وأن يطبق هذه المنهاجية بحظر وحصافة، إدارة الصراع السياسي وبصفة خاصة في النطاق الدولي كما أبرزتها خبرة العشرة أعوام الأخيرة على أن يتعامل بخصوصها من منطلق التخطيط البعيد الأجل إلا منظر للتخطيط السياسي وهو في حقيقة الأمر عندما ينقل مفاهيمه من نطاق التنظير إلى نطاق التعامل اليومي أنما يطبق هذه الذي ذكرناه باسم التميز بين المتغيرات. إدارة الصراع في أبسط معانيها تعنى تجزئة الموقف واكتشاف المتغير الأصيل القابل لأن يخضع لعملية تطويع واختيار الموقف من منطلق هذا المتغير وهو الهدف الذي يتفق مع إدارة الصراع من مطلق الحركة التي يمثلها خبير السلطة.

 هذه الملاحظات أيضا قادت إلى أن تجعل الخبرة السياسية بهذا المعنى أكثر فاعلية في النطاق الدولي ورغم أن النظرية السياسية لا تعنيها التعاملات الخارجية الجزئية. مما لا شك فيه أن النظرية السياسية كتنظيم للنشاط السياسي لا نستطيع أن نفصل الوجود الداخلي عن الوجود الخارجي، كذلك فأن العالم المعاصر بحكم طبيعة الترابط والتفاعل المتبادل قاد إلى فرض علاقة الاستمرارية بين السياسية الداخلية والسياسية الخارجية عبر السياسة الإقليمية إلا أنه رغم ذلك فأن موضوع النظرية السياسية أساسا هو التعامل الداخلي. التقاليد المعاصرة وكنتيجة لهذا الاختلاط وكنتيجة لهذا التداخل فرضت الطبيعة الكلية على النظرية السياسية فإذا بها تشمل جميع أنواع التكامل السلطوي. رغم ذلك فهي تظل هناك حقيقتان يجب علينا أن نتذكر كلا منهما ولولا كمال هذا الإطار العام محدودة والمواقف غير متعددة والافتراضات يمكن حصولها بسهولة أمور جميعها تؤدى إلى سهولة التحليل السياسي المتعلق بالتمييز بين المتغيرات. كذلك علينا أن نتذكر أن السياسة الإقليمية تأتى فتزيد الأمور تعقيدا لأنها عمل كلا طابعي السياسة الداخلية والسياسية الدولية: هي امتداد واضح للسياسة الداخلية حيث علاقات الجوار تتحكم بل في بعض الأحيان الانتماء القومي يصير وقد أمضى بمثابة أطار ثابت لفرد علاقة ولاه جديدة ولكنها من جانب أخر تعامل يعنى الانتقال في نطاق الجسد الداخلي إلى نطاق القوة الخارجية والدولية.

ثانيًا: مستويات التحليل السياسي وأهميته العلاقة بين المتغيرات:

عندما يعرف قانون الظاهرة السياسية يقال عادة بأن علاقته بين ظاهرتين قد بلغت مرتبة معينة من الثبات والاستقرار بحيث أضحت إحدى هاتين الظاهرتين تتوقف على الأخرى ولكن هذا تبسيط لمشكلة من أعقد المشاكل في التحليل السياسي.

وعلماء السياسة في سعيهم نحو البناء المنطقي لنظرياتهم العامة المجردة ما كانوا يستطيعون أن يقفوا عند هذا الجسد. هذا التعريف ليس إلا التطبيق المعتاد لأي تفكير علمي، فهل تكتفي بإعلانه ورغم تطبيقه دون أن تواجه تلك الخصائص الذاتية التي تعكسها الظاهرة السياسية والتي لا بد وأن تعكس وجودها في أسلوب تحليلها وبالتالي في نتائج ذلك التحليل ثم وبصفة خاصة هي عملية صياغة تلك النتائج ورفعها إلى مرتبة الكليات المجردة سواء وصفت هنا بأنها قانون أو بأنها مجرد افتراض؟.

الإجابة على جميع هذه الأسئلة تفترض علينا أن نبدأ من الأصول في أبسط مفاهيم وأن نحاول ومتابعة المنطق السياسي من حيث واقعيته دون أن تعنينا النظريات الفلسفية العديدة التي يسوقها الكثير من المتخصصين والتي تفترض على أن تكون مجرد لسلطة تجريدية لا تساهم بالجدية اللازمة في عملية التحليل من حيث وضع قواعد التعامل مع الظاهرة السياسية.

أول ما يجب أن يثيره الباحث وهو بصدد هذا السؤال: ما هي عناصر تلك الظاهرة أو ذلك الموقف أو بصفة عامة أي كلية من كليات الوجود السياسي. هو هذا السؤال ما هو المستوى الذي يتعين عليه أن يصل إليه في عملية التحليل بعبارة أخرى يجب أن تكون واضحة في أذهاننا طبيعة الغاية التي تتحدد متقدما من البحث السياسي أي يجب أن تتضح في إذ بأننا وبطاقة طبيعة عملية التحليل السياسي لا يعنى كونها مراحل متتالية: من المنطق المنهاجي التي تبدأ من العلوم وتسعى إلى المجهول لتكشف عن نواحي الغموض وتحيلها بدورها إلى معلوم ولكن بمعنى كون هذا البحث يسعى إلى تقديم نتيجة معينة قد تحددت مقدما بطبيعة الحال هذه النتيجة أو هذه الغاية تختلف من كل بحث إلى آخر ولكن نستطيع على الأقل ولو بصفة عامة أن نميز بين مستويات ثلاث من التحليل: مستوى الوصف ثم مستوى التبويب والتصنيف، ثم مستوى التفسير. بطبيعة الحال هناك مستويات أخرى سبق أن ذكرنا بعضها وسوف نعود لذكر بعضها في مواضع أخرى من هذه الدراسة ولكن على الأقل ونحن نريد أن نتساءل كيف نجزأ الظاهرة وكيف ننظم العلاقة بين جزئياتها فيجب أن ندرج غاية البحث في واحد من هذه المستويات الثلاثة:

المستوي الأول: هو وصف الظاهرة أي تقديم تصوير وتحليل لمعالم وخصائص الظاهرة. هذا المستوى لا يفرض الإلمام بطبيعة الظاهرة. المشاكل الحقيقة التي تثيرها الظاهرة لا تزال لم تحدد بعد أعلى الأقل الباحث ليس في حاجة إلى أن تثيرها. هي دراسة بعبارة أخرى تقف عند مستوى الملاحظة ولا تتعداها بطبيعة الحال الوصف بدوره بين الممكن أن نتصور بالنسبة له مستويات مختلفة من حيث التقسيم في الجزئيات والأطناب في الفرعيات ولكن تجمعها دائما حقائق معينة.

أول هذه الحقائق النقص في الإطار الفكري للتحليل. فالباحث لا يزال لم يستطيع بعد أن يتغلغل في هوية الظاهرة وأن يعبر عن الحقائق المرتبطة بمختلف عناصر الوجود الداخلي بصفة خاصة لظاهرة بمفاهيم مجردة تعكس تمكنه من الإحاطة بالظاهرة.

وهو ثانيا يكتف بمعرفة الظاهرة عن طريق الملامح الخارجية معرفة تكاد تكون هيكلية أكثر ديناميكية أو ديالكتيكيلة، هو لذلك يكفيه المنهاج الإحصائي الذي يسمح له بتجميع معلومات وتقديمها بصورة رقمية مبسطة.

المستوي الثاني: المستوى الذي يلي الوصف وهو ما نسميه بالتبويب أو التصنيف ونقصد بذلك تنظيم التطبيقات المختلفة للظاهرة ابتداء من خصائص معينة أو من متغير أساس هذه العملية تفترض درجة معينة من التجرد الفكري. ذلك أنه إذا كانت هذه العملية في نطاق العلوم الطبيعية من الممكن أن تتم به وفي أغلب الأحيان تتم استنادا إلى الخصائص الخارجية كلون الشعر أو طول القامة، إلا أنه في نطاق العلوم الاجتماعية بصفة عامة فأن هذه العملية تفترض درجة معينة من درجات الإحاطة بالظاهرة وفي نطاق التحليل السياسي يحكم كون ظاهرة السلطة ظاهرة مركبة وكلية، فأن عملية التبويب لا تستطيع أن تزعم الصفة العملية أن لم ترتبط بعملية تجريد فكرية تنبع بدورها بدرجة معينة من درجات الكلي عن طبيعة الظاهرة بطيعة الحال لا تفترض أن يكون ذلك الكشف قد وصل إلى مرتبة التفسير الكامل الظاهرة. ولكن يجب أن يكون الأقل قد ارتقى إلى مرتبة الافتراض الذي لها فلنقدم مثالا لذلك.

دراسة ظاهرة الغياب في المجتمع السياسي بمعنى تقديم وصف لها بخصوصها جمع معلومات وتصنيف هذه المعلومات في هيكل وصفى عام تبعا لفترة السن وتنويع هذه المعلومات الأساسية تبعا للجنس والمهنة والزواج مثلا. مثل هذه الدراسة هي دراسة وصفية لعامل السن في الوجود السياسي. ولكن لو أردنا أن نقوم بعملية مقارنة أو أسميناه بالتبويب لظاهرة المشاركة السياسية أي للإجابة على السؤال: من يشارك ومن لا يشارك سياسيا؟ فأن هذه العملية تفترض مسبقا التعريف بمعنى المشاركة. وهذا يعنى بناء الإطار الفكري معين سواء كان هذا الإطار هو خلاصة لتفسير الظاهرة أو كان استنادا إلى افتراض معلمي معين. كما لو قبل بأن الحضور في الاجتماعات التي يتولى الأشراف عليها التنظيم السياسي، أو دفع الاشتراك بنظام، أو التصويت بالتأكيد تعني جميعها المشاركة وعكسها يعنى عدم المشاركة وهكذا فإن تبويب هذه المعلومات المرتبطة بتلك المتغيرات إيجابا وسلبا يفترض درجة معينة من درجات الإحاطة بالظاهرة.

ولذلك فأن هذه العملية أي المستوى الثاني من مستويات التحليل أي ما أسميناه بالتبويب والتصنيف رغم أنه قد يختلط بالمستوى الأول عندما تكون عملية التبويب والتصنيف عملية مبسطة تدور حول عنصر هيكلي واضح ومحدد، إلا أنها في أغلب الأحيان ترتبط بعمليات منهاجية أكثر تقدما وأكثر دقة من العملية السابقة.

أ- فالإحصاءات تصير مركبة وتفترض نوعا أو درجة معينة من التحليل العميق ولا يكفى بخصوصها سرد البيانات وتجميعها.

ب- ثم كذلك تبرز عمليات فكرية جديدة وبصفة خاصة فكرة التيبولوجية التي تعنى جعل التصنيف حول نماذج محددة من حيث عناصرها وهو أمر يفترض درجة معينة من التقدم في التأصيل الفكري.

ج- تبدأ في الظهور بشكل واضح ما يسمى بالتعريفات الحركية أي تقدم تعريف لظاهرة معينة على أنه تعريف لها بخصوص دراسة معينة أو تأصيل للبيانات في موقف معين. هو تعريف لا يفترض الاكتشاف المطلق لطبيعة الظاهرة ولكنه صالح في مناسبة معينة كأساس لبناء أطار التحليل بخصوص تلك الظاهرة.

د- الافتراضات المعملية صورة أخرى من صور الأدوات الفكرية للتحليل على مستوى التبويب والواقع أن مفهوم الافتراض ورغم أنه لا يدعو إلى كثير من التفصيل في هذا الموضوع يجب أن يكون واضحا في ذهن المحلل السياسي الافتراض بوجه عام يقصد به نوع من الانطباع المؤقت وقد تمت صياغته في شكل تصورات تسمح ببناء هيكل لا فقط لجمع المعلومات بل ولبناء أطار التحليل بمعنى تفسير الظواهر، بعبارة أخرى فأن العمليات المختلفة التي تدور حولها عملية التحليل السياسي تتمركز حول مراحل أربع: بناء أطار التحليل. جمع المعلومات المرتبطة بالتحليل، تدوين نتائج التحليل، ثم إعطاء الصياغة النهائية لتلك النتائج. بغض النظر عن نوعية موضوع كل بحث وخصائص الباحث ذاته وأهدافه من البحث حيث أن كلا من هذه النواحي لها تطبيقاتها المختلفة فأن أي تحليل سياسي لابد وأن يجتاز تلك المراحل الأربع:-

1) بناء إطار التحليل: أو بعبارة أخرى تحديد المسالك المختلفة التي تسمح بتقديم الصياغة الأولية لكيفية الانتقال من المعلوم الذي تعرفه إلى المجهول التي تسعى إليه.

2) جمع المعلومات المرتبطة: بالتحليل التي في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون توضيح ذلك الإطار السابق بناؤه في جزئياته وعناصره من خلال التعامل المكتبي أو الميداني أو المعلمي. جمع المعلومات يسمح بتوضيح بالتأكيد أو الرفض أو التقيد لدلالات الإطار الذي وأعيناه أطار التحليل.

3) تعقب ذلك عملية يغلب عليها عنصر التنظيم لائق وفى جوهرها تدوين وتبويب المعلومات التي تم جمعها سواء أقتصر ذلك التدوين على تسجيل الانطباعات الشخصية أو استخلاص المنطق الذاتي أو اكتشاف المؤشرات الإحصائية للعلاقة بين المتغيرات.

4) وإذا انتهى من مرحلة تدوين نتائج التحليل ننتقل إلى مرحلة الصياغة النهائية لتلك النتائج أي نقل النتائج من مستوى العرض إلى مستوى التنظير المطلق بتطبيقاته المتعددة. الصيغ النهائية تناسقا وإبرازاً للجديد الذي استطاع الباحث أن يثبته من خلال تعميق المفاهيم وجمع المعلومات.

هذه المراحل المتتابعة تتبع جميعها في حقيقة الأمر من المرحلة الأولى إلى مرحلة بناء إطار التحليل والذي هو في جوهرة لا يعد وأن يكون عملية تجميع أو تحديد أو تفصيل مجموعة من الافتراضات التي تقوم عليها كل ماله صلة بمسارات البحث العمى السياسي. الافتراضات لهذا المعنى تتضح لا فقط أهميتها بل وطبيعتها: أنها مرحلة متوسطة بين العلم الأول والعلم العميق بين الانطباعات المؤقتة والتعامل الوضعي والموضوعي بين التصور والمدركات الذاتية والتدعيم المنطقي والمنهاجى والميداني المدعم بالوقائع وقد ترابطت كل منها مع الأخرى لتعمير المتداول للتنظير السياسي في معناه الضيق باحتمالات النجاح من عدمه. الافتراضات في مقدمه النجاح في التحليل السياسي. وعلينا أن نتذكر بهذا الخصوص أن الافتراض يفترض التنوع في المصادر، الجمع بين الفصول وعدم اتخاذ المواقف الواضحة الجامدة، تعدد المسالك بحيث تأتي الفلسفة فتكمل التاريخ وكلاهما تسنده الخبرة التجريبية ولو دون أن تخضع لذلك الخبرة التجريبية لخصائص العينة الصالحة لتعميم النتائج بالمعنى الضيق.

المستوي الثالث: التبويب بفرض درجة من التفسير والتفسير هو في ذاته مستوى ثالث من مستويات التحليل حيث يرتفع الباحث من مجرد الإحاطة الخارجية بالظاهرة أو تبويبها في تقسيمات أو في نماذج متعددة إلى مستوى التفسير أي القيام بتلك العملية المنطقية التي تسمح بفهم الظاهرة: التفسير يفترض الفهم، والفهم لا يستطيع أن يتخلى عن ضرورة التفسير. فالتحليل السياسي لا يستطيع أن يرتفع إلى مرتبة التنبؤ ولا يستطيع أن بثوم بوظيفته من حيث التخطيط السياسي أو ربط العلم بالمجتمع في أي صورة من صوره إذا لم يرقى إلى مرتبة التفسير الكامل للظاهرة.

هنا يجب أن نلاحظ أن الوصف حتى ولو كانت مستندا إلى الملاحظة لا يعني التفسير فمشاهدة سياسية تسير في اتجاه خاطئ هو ملاحظة ولكنه لا يستطيع أن يرقي إلى مرتبة التفسير بمعني الإجابة على هذه السؤال: لماذا اتجهت إلى وجهة خاطئة أي لماذا اتجهت إلى غير وجهتها الأصلية؟ هل يعود ذلك لخلل في السيارة أم يعود إلى عدم صلاحية القائد وإلى عدم خبرته، أم يعود لارتباك نشأ لسبب أخر في عملية القيادة مستقل عن صلاحية القائد من عدمه؟ كل هذه أسباب قد تفسر الظاهرة.

ما هي إذن طبيعة عملية التفسير في التحليل السياسي؟

ما هي خصائص هذه العملية؟

أسئلة جميعها في حاجة إلى إجابة، وسوف نجيب عليها فيما بعد بالتفصيل الكافي. ولكن نكتفي مؤقتا بأن نتناول أحد عناصر الإجابة ألا وهو ذلك المرتبط بطبيعة العلاقة بين متغيرات الوجود السياسي.

ثالثًا: مستوي التحليل السياسي وعملية الربط بين مختلف المتغيرات السياسية:

     إذ حددنا مستوى التحليل، بقي أن ننقل المقدمة التالية وهي طبيعة العملية التي تربط بين مختلف المتغيرات التي منها تتكون الظاهرة السياسية أي مشكلة موضع التحليل، ما المقصود أولا بكلمة متغير سياسي؟ هذه الكلمة نريد بها تلك التعامل التي تساهم في بلورة نتيجة معينة البت يمكن القول بأنه دون تلك العوامل ما كان يمكن أن تتحدد تلك النتيجة فالمشاركة السياسية مثلا تعنى التفاعل بين المواطن والسلطة أحد عناصر التي منها تتبع هذه الظاهرة هو المعرفة بالسلطة أو أن شئنا الثقافة السياسية في أي معنى من معانيها. الثقافة السياسية تصير بهذا المعني متغير لأنها عامل يساند علاقة غير دائمة- الاهتمام من عدمه- لتلك المجموعة أو لتلك الحقيقة الكلية التي هي ظاهرة المشاركة السياسية والتي تصير بالنسبة لها عامل الثقافة أحد عناصرها.

وإذا وصلنا إلى فهم مدلول كلمة المتغير بقي أن نساءل عن طبيعة العملية التي يتم على ضوئها ربط العلاقة بين مختلف المتغيرات التي تدور حولها عملية التحليل.

نحن نفترض في أي من مستويات التحليل السابق تحديدها إجمالا أننا استطعنا أن نكشف عن علاقة بين متغيرين، فما هو الموقف الذي يجب أن يعود صياغة تلك العلاقة؟ أو بعبارة أخرى كيف نرتبط بين هذين المتغيرين؟ في النموذج الذي سبق وذكرناه المشاركة من جانب بأي معني من معانيها ولنفترض تسهيلا لعملية التحليل هي مجرد الإقبال على عملية التصويت السياسي من جانب والثقافة والعلم من جانب آخر.

ففي مستوى الوصف يكفي أن نقدم العلاقة الارتباطية بمعني التوافق المكاني أو الزماني فلو قررنا استنادا إلى الملاحظة والسلطة، أي المعلومات الإحصائية، بات 70% من المثقفين يشتركون في عملية التصويت السياسي وأنه على العكس من ذلك بالنسبة لغير المثقفين تنخفض النسبة إلى 20% لاحظنا أن نصل إلى تقديم وصف للظاهرة ينتمي تحديد للعامل الثقافي كأحد متغيرات ظاهرة المشاركة السياسية لو كان لو انتقلنا إلى مستوى التبويب والتقسيم حيث يفترض تقديم نماذج مقارنة فإن مثل هذا التصوير للعلاقة بين المتغيرات لا بكفي ذلك أن التقسيم يفترض على الأقل متغيرا أخر يأتي فيضيف وجود. كأساس لخلق النماذج. فمثلا في الصورة السابقة يجب لا أن نتحدث فقط عن متغيره واحدة بالنسبة للظاهرة الأصيلة ولكن عن متغير أخر يكون أساسا للتفرقة والتقسيم في داخلة تتنوع صور المتغير موضع التحليل الأساسي وجب أن نضيف متغيرا أخر: عنصر الشباب مثلا عنصر محل الإقامة فلنفترض أننا أردنا أن نقارن أو أن نبوب المعلومات تبعا للتفرقة بين المشاركة في المجتمع الحضري والمشاركة في المجتمع الريفي: هنا يتعين علينا أن نجمع معلومات، وأن تبويب هذه المعلومات بخصوص متغير الثقافة تبعا لما إذا كان المواطن مقيما في مجتمع حضاري أو في مجتمع ريفي. العلاقة تزداد بهذا الشكل تعقيدا:

أ- فيجب أن يسبقها افتراض معين على الأقل أساسه أن المشاركة تزداد أو تقل تبعا للانتماء إلى مجتمع حضاري أو مجتمع ريفي حتى مع ثبات العامل الثقافي.

ب- أن هناك تعريفا معينا وليكن تعريفا إجرائيا بقصد هذا البحث بالذات لمدلول المجتمع الحضري وبمدلول المجتمع الريفي.

بقي السؤال: كيف تصوغ العلاقة بين تلك المتغيرات لا هل يكفي مجرد الارتباط أي التوافق الزمني والمكاني بمعني "حيث... يوجد.... أو بمعني السبب أو النتيجة "أو مصدر ب".

كما سبق ورأينا التبويب هو في الواقع مرحلة نتوسط الوصف والتفسير، نفترض الوصف ونفترض على الأقل درجة معينة من درجات التفسير. وهكذا العلاقة بين المتغيرات بهذا المعني تصير مشكلة مشتركة بين التبويب والتفسير من حيث طبيعتها وأبعادها.

رابعًا: المتغيرات السياسية وتفسيرها ظاهرة الوجود السياسي

إذ تصل إلى مستوي التفسير فإن مجرد الترابط الزمني أو المكاني لا يكفي هناك متغيران بينهما علاقة: ما هي طبيعة هذه العلاقة؟ أيهما مصدر للأخر أيهما يؤثر ولا يتأثر؟ الأسئلة عديدة لا حصر لها، فلنقدر مثلا:

جماعة الأبحاث الميدانية في جامعة ميتشيجان وتحت قيادة العالم "فرنثر" استطاعت أن نلاحظ أن المصانع التي تقدم أحسن الصور بين من حيث النشاط الإنتاجي كانت تلك التي تعبر عن خبر الصور الديمقراطية في الإدارة. الملاحظة والمشاهدة استطاعت أن تثبت علاقة بين ظاهرة الإنتاج والعامل الديمقراطي في الإدارة: ما هي طبيعة تلك العلاقة وكيف نفسرها؟

مثل آخر:

لوحظ أن مرض السرطان ينتشر بين المدخنين فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ هل السرطان مصدر لحالة التدخين أم العكس؟ أم أن كليهما نتيجة لعامل ثالث لم نعرفه بعد؟ أيهما السبب وأيهما النتيجة؟

 

 

في نطاق الظواهر الطبيعية نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة بوضوح:

(أ) بسبب عامل الزمن حيث يستطيع أن نحدد بشكل قاطع متي يبدأ التغير في أحداث إثارة ومتي ينتهي؟ ومن ثم تصير الأسبق زمنيا هو المصدر أو السبب واللاحق زمنيا هو النتيجة فالتدخين سابق على السرطان وليس العكس أذن لا يمكن أن يثير السؤال إلا بمعنى واحد: هل التدخين مصدر السرطان؟ ولا يمك أن يثار بالمعنى الأخر: هل السرطان مصدر للتدخين: أما في نطاق العلوم الاجتماعية فأن هذا التعامل ونستطيع أن ندخله في الاعتبار لأن العلاقة تفاجئ بها دفعة واحدة ودون سابق إنذار.

(2)      كذلك يفضل فكرة خلق التجربة حيث نستطيع من طريق عزل الظاهرة وتثبت جميع المتغيرات على متغير واحد والتحكم في ذلك المتغير من حيث وجوده ودرجات وجوده ثم اختفائه يسمح لنا بالتمييز بين المتغير الأصيل أو المستقل والمتغير التابع أو الفرعي.

المشكلة في نطاق التحليل السياسي لا تختلف عنها في نطاق التحليل الاجتماعي بصفة عامة. وهي تدور حول مبدأ الاستغناء عن فكرة السبب والنتيجة والاكتفاء بما يسمى مبدأ المتغيرات المقترنة. فلا يعنينا أن نثبت هل العامل الثقافي هو السبب في ظاهرة ازدياد المشاركة أم لا ؟ ولكن يعنينا أن نؤكد أنه حيث يرتفع مستوي الثقافة ترتفع درجة المشاركة وحيث تنخفض درجة المشاركة يلاحظ انخفاض مستوي الثقافة.

على أن الواقع أن مثل هذا التفسير هو إعلان عن أخفاق حقيقي في مواجهة تحليل الظاهرة السياسية. أن مجرد الاكتفاء بالحديث عن توافق أو ارتباط زمني أو مكاني يعني عدم تجاوز مرحلة الوصف ولا يخفي من مسئولية علماء التحليل الاجتماعي الزعم بوجود صعوبات مهما تعددت.

سوف نرى فيما بعد تفصيل أدوات التحليل المنطقية والتجريبية التي تسمح بسد هذا النقص. ولكن يكفي أن نعود إلى هذا النموذج الذي قدمناه المتعلق بالعلاقة بين العامل الثقافي وظاهرة المشاركة، كيف نستطيع أن نكتفي بمجرد القول بأن هناك الارتباط بين الظاهرتين؟ قد يكون هذا المستوي كاف لهم للظاهرة الاجتماعية بصفة عامة ولكن بخصوص الظاهرة السياسية كيف نستطيع أن نكتفي بمثل ذلك المستوي من السطحية في التحليل.

أ- فالظاهرة السياسية حقيقة ديناميكية والديناميكية تفرض لإمكانية متابعتها التمييز بين المتغير الأصيل والمتغير التابع " أو بعبارة أخرى المتغير الذي يتحدد بوجوده المتغير التابع والأخر بمجرد اختفاء المتغير الأصيل في المثل السابق الخاص بالمشاركة: كيف نستطيع أن نكتفي بمجرد القول أنه حيث يوجد المشاركة وجدنا المثقف وحيث لم نجد المشاركة لم نجد المثقف؟ كيف نستطيع أن نصف أن مثل هذا التصور نوع من التفسير؟ أننا يجب أن نجيب على السؤال التالي بصراحة ووضوح: هل الثقافة متغير يتحكم في درجة المشاركة.

الإجابة على السؤال قد تأخذ صورا متعددة كل منها تختلف في مداها ومدلولها عن الأخرى، وكل منها تفترض على مستوى من مستويات التحليل والإحاطة بالظاهرة يختلف اختلافا كليا عن الآخر.

1-              فإن كانت الإجابة بالإيجاب، كان معني ذلك أن العامل الثقافي أحد المتغيرات التي تتحكم في ظاهرة المشاركة السياسية.

2-              وأن كانت الإجابة بالنفي فأن معني ذلك أن ظاهرة الثقافة لا تتدخل في تشكيل المشاركة السياسية. ولكنها قد تصير أحد مواصفات التعبير عن المشاركة السياسية

3-              وقد تكون الإجابة بأنه لا توجد أي علاقة بين العامل الثقافي وظاهرة المشاركة السياسية.

ب- من جانب أخر فأن كل ظاهرة في نطاق التحليل السياسي هي متغيرة وكل متغير ظاهرة. ففي النموذج أمامنا ظاهرة المشاركة وهي ظاهرة قائمة بذاتها قد يصير العامل الثقافي أحد متغيراتها ولكن أيضا العامل الثقافي في ذاته ظاهرة وهي الظاهرة الثقافية. وهكذا كما أن ظاهرة الثقافة تصير متغير بالنسبة للمشاركة فأن المشاركة في ذاتها قد تصير متغيرا بالنسبة للثقافة: أليست المشاركة تمثل بدورها هذه الظاهرة متغيرا في المتغير الآخر الذي بدوره يكون ظاهرة مستقلة.

ثالثا: أضف إلى ذلك أن طبيعة الوجود السياسي يجعل من ظاهرة التفاعل بين المقومات أو المتغيرات أو الظواهر ذات دلالة معينة من حيث نتائج التطور بحيث يمكن القول بأن كل متغير هو مصدر ونتيجة في أن واحد ولكن بمعني معين لنفهم ذلك فلنقدم نموذجا: العلاقة بين ظاهرة الزواج وظاهرة الاعتدال السياسي. لوحظ أن الشاب عقب زواجه نتتجة إلى أن ينتقل من الموقف الصلب العنيف في الرأي إلى الموقف المعتدل الأكثر تقبلا للتوفيق ولعدم المبالغة في الرأي السياسي والسؤال الذي نثيره: ما معني هذه العلاقة وما مداها من حيث التأثير المتبادل؟ فلنفترض أن (أ) هو شخص يمتاز بالتطرف في اقتناع مذهب سياسي معين ثم تزوج كم شخص أخر له نفس صفاته أو يختلف عنه في بعض الصفات المرتبطة بنفس المتغير أي التعصب أو الاعتدال. لوحظ أن كليهما يخضع لتأثير معين نتيجة لذلك الزواج: فالفتاة تتجه للتأقلم بشخصية الزعيم وتجعل إلى أن تقترب من خصائصه. هذه التكيف يعقبه درجة من درجات الاعتدال من جانب الشاب وتظل العملية هكذا في توالي مستمر حتى تنتهي بتقارب بين الشاب والفتاة أن لم يكن هذا التقارب موجودا من قبل مع اعتدال من جانب الشاب ولو نسبيا لو قورن بموافقة السابقة على الزواج.

مثل هذا النموذج يكون من التبسيط المبالغ فيه القول بأن هناك ارتباط بين ظاهرة الزوج وبين ظاهرة الاعتدال السياسي.

1-              فأول ما نلاحظه أن هناك متغيرا أخر خفيا لم يثر في ذهننا ولكن التحليل العميق يفرض علينا أن نتصوره، وهو عامل السن: أن الزواج يعني مع استمرار بقاعة الابتعاد ولو نسبيا عن مرحلة الشباب والاقتراب ولو نسبيا، لو لفترة محدودة من الزمن. لمرحلة النضج.

2-              وإذا كان هذا المتغير، أي عامل ابسن، نستطيع أن نصل إليه كما ومن واقع التحليل الهيكلي فأن هناك عامل أخر خفيا في حاجة إلى عمق في التحليل ألا وهو الوظيفة والدور الاجتماعي فالشاب غير المتزوج لا يقوم بأي وظيفة أو دور اجتماعي متعلق بكونه رب أسرة، الفتاة غير المتزوجة بدورها لا تقوم بأي وظيفة أو دور اجتماعي خاص بنفس الظاهرة. هذه الوظيفة الجديدة لها أيضا أثارها.

3-              ثم هناك- وهذا هو الذي يعينا بهذا الخصوص- التنقل المستمر المتتالي للتفاعل بين العوامل بمعني مثلا: الشاب العنيف المتطرف وقد تزوج فتأثر بالزوجة ذات الصفات الأخرى المتشابهة أو المختلفة، والزوجة وقد تأثرت بالزوج ذي الصفات الأخرى أو المتشابهة: هذا هو الموقف الأول. بعقب هذا الموقف موقف أخر قد يبدو لأول وهلة واحدة ولكنه مختلف الزوج وقد تأثر بالزوجة والزوج وقد تأثرت بالزوج. بعبارة أخرى أن الظاهرة الاجتماعية تفرض أن التأثير المتبادل وقد خلق ظاهرة التفاعل لا بد وأن يقدم حقائق جديدة أو على الأقل مختلفة من حيث أنها بعد التأثير لا بد وأن يكون له رد فعل. وأن رد الفعل لا يتجه فقط إلى العامل الأخر المؤثر وإنما يعود أيضا على نفس العامل الذي اثر.

 بعد أن الظواهر السياسية لا تخضع دائما لعملية التحليل الكمي وأن عملية التبويب الكمي في نفس الوقت ضرورة لازمة لا عناء التحليل السياسي صبغته العملية السؤال الذي أثيره الآن هو. مع افتراض إمكانية التحويل الكمي للظاهرة، فكيف نستطيع أن نحقق عملية الانتقال من الكم إلى الكيف لفهم الظاهرة السياسية؟ المشكلة في الواقع مزدوجة فكما أن المشكلة يمكن أن تثار بمعني الانتقال من الكم إلى الكيف، فكذلك من الممكن أن تثار بمعني الانتقال من الكيف إلى الكم. وفي كلا العمليتين هناك أخطاء من الممكن أن نقع وهناك إطار يجب أن يربط كلا العمليتين وهناك متغيرات يجب أن تتفاعل وأن تتدخل في كلا العمليتين.

فلنقدم بعض النماذج:

في المثال السابق تحدثنا فيه عن ظاهرة المشعينا بأن نجعل عملية التصويت السياسي علامة على المشاركة. ولكن هل هذا صحيح؟ هنا سوف نلمس الصعوبات الحقيقة التي تواجهها بناء المتغيرات المرتبطة بتحليل ظاهرة الوجود السياسي، فمما لا شك فيه أن الإقبال على عملية التصويت السياسي علامة من علامات الاهتمام. وجودها يعكس تلك الحالة واختفائها يعني عدم الاهتمام. ولكن لو تصورنا أن هناك قانونا ينص على قرب من لا يقوم بأداء واجبه التصويتي ويترتب على ذلك جزاء قاسي كالحبس مثلا، فهل مجرد التصويت يعني المشاركة الإيجابية ولا يمكن أن تكون إلا بالنفي. ما معني ذلك؟ أن هذه الحالة الباطنة أي الحالة الكيفية في حاجة إلى علامات معينة – علامات كمية للتعبير عن وجودها. هذه العلامات قد تصلح في بعض الأحيان وقد لا تصلح في أحيان أخرى. وهكذا من هذا النموذج الأول نستطيع أن نكتشف حقيقتين: الأولى نسبية الدلالة في المظاهرة السياسية والثانية ضرورة وجود المؤشرات في تحليل الظواهر السياسية. ما السبب في ذلك؟ هل لأن الظاهرة السياسية ظاهرة بطبيعتها كيفية؟

فلنتقدم خطوة أخرى: هل مجرد التصويت السياسي علامة كافية حتى في ذلك النموذج حيث لا يوجد مثل ذلك الإكراه المادي على ظاهرة المشاركة؟ مما لا شك فيه أن الإجابة أيضا هنا لا يمكن أن تكون إلا بنفي. فالمؤشرات لأي ظاهرة كيفية عديدة. سبق أن رأينا بعضها ونستطيع أن نسبب مؤشرات أخرى. قراءة النشرة الحزبية. مساعدة أعضاء الحزب أو المنظمة السياسية الذين تصادفهم إحدى المآسي بسبب نشاطهم السياسي، توزيع المنشورات السياسية، عدم تقبل المناقشة في القرار السياسي الصادر من تلك المنظمة أو الحزب. التخلي عن جزء من المرتب أو الدخل تأييدا أو دفاعا عن مصالح المنظمة السياسية. كلا هذه علامات تعكس بدرجة أز بأخرى حالة المشاركة. المتغيرات إذن متعددة والمؤشرات لا حصر لها وهنا يدور سؤال آخر: كيف نستطيع أن تحدد دلالة كل هذه العلاقات في تعبيرها عن الظاهرة؟ قد يبدو أن هذه السؤال محدود الأهمية ولكن الواقع أن هذا غير صحيح. فلنتصور أننا نريد أن نحدد أهمية عامل معين أو متغير معين، بخصوص ظاهرة المشاركة. أن ذلك يفترض أن تكون قد استطعنا أن نخضع هذه المؤشرات المختلفة الأمر الذي يسمح لا فقط بأن نقيس مدى بدرجة الظاهرة الكلية بلي وأن ترتب هذه المؤشرات من حيث الأهمية.

خامسا: فلو أضفنا ذلك أن التفسير في نطاق التحليل السياسي قد لا يقتصر على مجرد البحث من فهم الظاهرة السياسية نتيجة لنوع من الفصول الذي يدفع بالرغبة في إفناء المعرفة البشرية بل وفي أغلب الأحيان ويجب أن يتعدى ذلك إلى السعي نحو تطوير قدرة معينة على التحكم في واقعة معينة أو مجموعة من الوقائع لفهمنا إلى أحد تصير جميع الخصائص وقد كونت خلفية فكرية معينة تفرض مواجهة مشكلة العلاقة بين المتغيرات في نطاق التحليل السياسي بالكثير من الجدية وليس علينا لتأكيد هذه الملاحظة سوى أن نقدم مثالا من واقع الأحداث السياسية بالنسبة للمؤرخ سوف يتناول كل حالة على حده ويحيا لي وقائعها. هو يفسر مثلا الحرب العالمية الأولى أسبابها ونتائجها ليري كيف أنها لم تفصل سوى أن أجلت المشاكل السياسية التي ارتبطت بأوائل القرن العشرين. وهو حتى في محاولة تفسيره لتلك الوقائع لن يبدأ إلا من تلك الفترة الملاحقة مباشرة للصراع العسكري. سيبدأ من تلك المجموعة من الوقائع المرتبطة ارتباطا مباشرا بالصدام العنيف بحيث يمكن أن توصف بأنها مصدر له من الناحية الزمنية. ولكن لو انتقلنا إلى النطاق السياسي فسوف نلاحظ أمرين: الأول أننا لن نستطيع أن نقتصر على نموذج واحد: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، حرب كوريا، الاعتداء الثلاثي في السويس، حرب الأيام الستة، حرب فيتنام. نماذج متعددة وكل مها لابد وأن تكون له دلالته وكل منها لابد وأن يكون له مغزاه. كذلك أبعاد التحليل الزمنية منها اتصالا مباشرا بل ولابد وأن نسعى إلى العوامل الخفية التي قد لا ترتفع إلى سطح الماء للتعبير عن وجودها تعبيرا واقعيا، وقد تظل خفيفة ولكن ذات فعالية حاسمة في الدفع نحو مثل تلك الصور من صور الصراع المسلح.

فالصراع مثلا حول السويس يقودنا إلى إثارة المشكلة الاستعمارية أبعد من أن تتحدد بواقعة تأميم حول السويس، وحرب الأيام الستة لا يمكن فهمها سياسيا إذا لم نلقي بأنفسنا في متاهات المشكلة اليهودية وما يرتبك بها من ظاهرة القومية اللااسرائيلية قد تمتد إلى عشرات القرون ولكنها قطعا أن تقتصر على عدة أعوام سابقة على ذلك الصرع المسلح. هذا البعد الزمني يجب أن يرتبط به بعد أخر فكرى أو أن شئنا إلى جانب البعد التجريبي فإن التفسير الذي يزعم أنه يريد أن يرتفع إلى مستوى التحكم في الوقائع لا بد له أيضا من بعد آخر تجريدي ذلك أن التفسير بمعني أكثر اتساعا بحكم تعدد النماذج التي يفرضها البعد التجريبي.

خامسًا: عملية التحديد وعزل المتغيرات المرتبطة بالوجود السياسي

بغض النظر عن التطبيقات المختلفة فأن تحليل الظاهرة السياسية يفترض عملية عزل المتغيرات المرتبطة بتلك الظاهرة. أو بعبارة أخرى لترجمة الظاهرة إلى مجموعة من المتغيرات فأن هناك عمليات متتابعة يجب أن تخضع لها الظاهرة إذا أردنا أن نعزل مختلف المقومات التي منها تتكون الظاهرة بحيث تختلط بتلك المقومات الواحد منها الأخر. خير من قدم لنا تحليلا منهاجيا بهذا العملية هو العالم الأمريكي " لازار سفيلد" الذي يجدد هذه العملية بأنها متابعة لخطوات أربع:

أ- تصور افتراض للمفهوم. هذه العملية التي تقوم على اختلاف تصور معين تصير بمثابة بناء لذلك الذي أسميناه التعريف الإجرائي والذي نستطيع أن نعرفه بأنه من أنواع الافتراضات المعملية ما أسميناه قد أرتفع إلى مرتبة معينة من مراتب القدرة والتحديد وقد يكون البديل لهذه العملية بنموذج التحليل أو بعملية بناء النموذج. وهذه جميعها مفاهيم سوف نعود إلى دراستها أكثر تفصيلا فيما بعد.

1-     الخطوة التالية تتلخص في أجراء عملية تجزئة للمفهوم: العقبات أو العناصر الإبعاد المختلفة للمشكلة. الظاهرة المتعددة المرتبطة أو المعبرة عن وجود الظاهرة. الألفاظ كثيرة والاصطلاحات عديدة التي يلجأ إليها علماء الاجتماع في كلمة أبعاد الظاهرة. فلنتصور أننا اذاء دراسة ظاهرة التنمية السياسية. أن مفهوم التنمية من الممكن أن يعبر عنه ويحدد إطاره الفكري بطريقة فلسفية تكاند تعكس منطقا إيحائيا أكثر من أي شيء أخر. ولكن لو أردنا الدراسة التجريبية لهذه الظاهرة فعلينا أن نحلل هذا المفهوم وأن نعيده لمقوماته وعناصره: التجديد السياسي، الإصلاح، المتغير، سرعة التنمية، التنمية النوعية، الطبقات الاجتماعية، التطور الصناعي، الرأي العام، التوعية السياسية..... الخ.....

ج- فإذا انتهينا من تلك العملية المتعلقة بتجزئة المفهوم علينا أن ننتقل للبحث عن المؤشرات المرتبطة بكل من أبعاد المفهوم. فمفهوم التنمية السياسية له أبعاد معينة قد افترضناها فكريا. والآن علينا أن نكتشف المؤشرات المعبرة عن كل من تلك الإبعاد. وهذه المرحلة هي المرحلة الحاسمة في عملية تجزئة الظاهرة. لأنها تفترض أكثر من عملية واحدة: تفترض أننا سوف نصل خلال هذه المرحلة إلى اكتشاف الأبعاد التي يجب أن نتمسك بها وتلك التي لا تكون متغيرات في أو بعبارة أخرى الأبعاد التي تكون متغيرات والأخرى التي لا تكون متغيرات في الظاهرة موضع التحليل. كذلك سوف نستطيع خلال هذه المرحلة أن نكتشف العلامات المعبرة عن كل من هذه المتغيرات موضع الاهتمام... ثم ثالثا سوف نستطيع أن نكتشف اللاعقة بين المؤشر والظاهرة موضع التحليل. ثم رابعا لأننا خلال هذه المرحلة سوف تصطدم اصطداما مباشرا بالواقع التجريبي. ثم خامسا وأخيرا لأن هذه المؤشرات المتعددة لابد وأن تثير مشكلة اختيار عدد ومرتبة كل منها بالنسبة لكل من أبعاد الظاهرة موضع الدراسة.

لنتصور هيئة حزبية تريد اختيار من يمثل الحزب انتخابات معينة من بين عشرة متقدمين لتلك العملية. بطبيعة الحال لو أن واحدا فقط من هؤلاء العشرة كان متفوقا على التسعة الآخرين في جميع صفات القيادة السياسية لكانت عملية الاختيار سهلة ولفرض ذلك الشخص وجوده على جميع الآخرين. ولكن لنفترض أن أحد هؤلاء العشرة خطيب- يستطيع أن يسحر السامعين بلغته وأسلوبه. وأن الثاني ذو ماص عسكري حافل بالتضحيات والبطولات. الثالث له تاريخ طويل في النشاط الحزبي خرج من أدني الصفوف يتابع تطور الحزب أو التنظيم السياسي منذ بدايته متنقلا من مستوى إلى آخر حتى وصل إلى أرقي المستويات الإدارية في التنظيم، وهكذا الخ.... فكيف تستطيع هذه اللجنة أن تفضل شخصا عن الآخر؟

د- تأتي عقب ذلك المرحلة الرابعة وهي التي يسميها لازار سفيلد بالمرحلة تكوين "الدليل" ونقصد بذلك عملية تجميع في شكل خلاصة لتلك الوقائع المتفرقة التي تم الحصول عليها خلال المراحل السابقة في شكل دليل متكامل يسمح بأن يوصف بأنه يعكس نوعا من القياس- على أن تفهم تلك الكلمة في أوسع معانيها للظاهرة موضع التحليل.

أول ما نلاحظه أن هذه العملية في نطاق التحليل السياسي عملية جديدة لا تعود إلى أكثر من عشرين عاما. بدأت يفضل علماء علم النفس الاجتماعي الذين قدر لهم أن يتعرضوا لدراسة الظواهر السياسية وكان ذلك على وجه التخصيص في نطاق ظاهرة التصويت السياسي في مختلف تطبيقاته: انتخابي، تشريعي، أو ما في حكم كل منهما. على أنه سرعان ما انتقل هذا الأسلوب أو هذا التقليد إلى نطاق علم السياسة البحص وسرعان ما تقلبه علماء السياسة في أكثر من ميدان واحد. ولكن لا يزال الميدان الرئيسي الذي يعكس هذه المنهاجية هو كل ماله صلة بالسلوك السياسي.

ولعل الفضل يعود بهذا الخصوص إلى الجهود الضخمة التي بذلتها والتي لا تزال تبذلها جامعه ميتشيجان في تجميع مادة ضخمة تتناول جميع نواحي التعبير عن المواقف السياسية الفردية. وفي خلال الأربعة أعوام الأخيرة يفضل جهود تلك الجامعة حيث تتركز اليوم أيضا الأبحاث التي يوجهها اتحاد العلوم السياسية الأمريكي اتجهت إلى إضافة فكرة الدراسات الإقليمية ومعني ذلك أن تتدخل فبرنامجها سواء من حيث جمع المادة أو من حيث إقامة عناصر التحليل أكثر من منطقة واحدة لا فقط في داخل الولايات المتحدة الأمريكية بل وفي خارجها. ففيما يتعلق بداخلي الولايات المتحدة الأمريكية فإن الأسلوب المقارن يسمح بتصور التطور السياسي للرجل مع مقارنتي بالسلوك السياسي للمرأة، الأبيض والأسود، العربي واليهودي الأمريكي. على أن هذه الصورة من صور المقارنة تبدأ تصير أكثر أهمية عندما تأخذ صورة مقارنات إقليمية دويتس أن تقل إلى جنيف ليقوم بأبحاثه عن ظاهرة السلوك السياسي المرتبطة بعملية الاندماج في غرب أوربا وغيره ذهب يحلل السلوك السياسي في الدول الاسكندينافية. البرنامج الحالي لتلك الجامعة يتصور فيضانا لهذه المنهاجية لا فقط على أمريكان الجنوبية بل كذلك في أباعد متعددة لمنطقة جنوب آسيا. وقد يتساءل هل مرد ذلك هو فقط اهتمامات علمية؟ الواقع أن خلف هذه الاهتمامات هناك دفعة قوية مردها تصميم السياسة الخارجية الأمريكية على أن تبدأ فنفهم تلك المجتمعات قبل أن تضع خطتها الحركية في مواجهة القوى المعادية أو الصديقة التي يفرضها عليها وجودها الدولي المعاصر. موضع التفصيل في هذه النواحي هو عندما يقدر هذه الغزارة التي يلاحظها الباحث في الدراسة القائمة على أساس تحليل المتغيرات المكونة للظاهرة، وهي أكثر أنواع الدراسات تقيما من الوجهة العلمية وبصفة خاصة في نطاق السلوك السياسي التي يقابلها فقر آخر مثل بخصوص كل ما عدا ذلك من مشاكل الوجود السياسي.

من بين النماذج العديدة التي تعبر عن هذا العملية التصدي تعبير ذلك الذي يسوقه العالم الأمريكي " هاينمان" فلو القينا نظرة على جهاز حاكم إحدى الإدارات- المحلية، فأننا نستطيع أن تجزأ هذه الجهاز إلى العديد من المقومات: التنظيم القانوني للجهاز، الخصائص الشخصية، وصفات الأفراد الذين يتولون هذا الجهاز، أهداف ونشاط أفراد المجلس التشريعي، الصفة السلطة التي تسيطر على حاكم ذلك الإقليم من أنه هجومي أو مسالم، وهكذا إلى مالا نهاية لو نظرنا إلى هذه الجهاز وقد أدخلناه فيه عنصر الزمن لوجدنا أنه لا بد وأن يخضع لتغيرات متعددة تنبع من اعتبارية: الأول أن كلا من عناصر هذه الظاهرة منظورا إليها كحقيقة مستقلة هو عوضه للتعبير. خصائص مثلا الأشخاص الذين يقومون بإدارة الجهاز. خصائص الحاكم، أهداف القادة السياسيين الذين يشتركون في المجلس الانتخابي. والسبب الثاني يعود إلى أن نماذج العلاقات المختلفة بين هذه المتغيرات المتعددة لابد أيضا وأن تتغير أو يصيبها نوع من التغير سواء كان ذلك مردة لتغير بعض العناصر أو كان ذلك لمجرد مرور عامل الزمن.

في مثل هذا النموذج تحليل المتغيرات يجب أن يتجه لتحقيق الأهداف الآتية:

أ- التحديد بالمتغيرات أو العوامل التي من تجمعها يتكامل ذلك الجهاز في تلك الصورة وذلك الهيكل الذي تعرفه.

ب- كذلك الاكتشاف كيف أن هذه المقومات والمتغيرات تتعانق كل منها مع الأخر لتكون ذلك الجهاز أو تلك الظاهرة في ذاتها بغض النظر عن أي اعتبار أخر.

ج- كيف أن هذه الظاهرة أو هذه الجهاز يتغير إلى أحسن أو إلى أسوا تبعا لتغير العناصر المختلفة كلها أو بعضها في الزمن القصير أو الطويل نسبيا، وكيف أن اختلف العلاقات التي تتكون منها تلك الحقيقة تتغير تبعا لذلك.

د- كيف يعبر عن مجموعة هذه العناصر وقد انصهرت فيما بينها بخصائص لتلك الظاهرة كحقيقة كلية.

و- وكيف يترتب مع إدخال عنصر الزمن على تغير بعض العناصر أو المقومات أي المتغيرات انعكاس في الخصائص العامة التي تعكس تلك الحقيقة كظاهرة جماعية.

سادسًا: فكرة الدورة وعملية التحليل السياسي

يرتبط بموضوع العلاقة بين المتغيرات حقيقة كلية أخرى منهاجية يعبر عنها بفكرة الدورة ويقصد بذلك أن التطور السياسي لا يعرف نقطة معينة يقف عندها، وأنه في تنقلاته المتتابعة من موقف إلى آخر هو يستمر ويتنقل ليعود إلى نقطة البداية فالظاهرة السياسية كما سبق ورأينا تقوم على أساس أن العلاقة بين المتغيرات هي علاقة متبادلة: من (أ) إلى (ب) ومن (ب) إلى (أ)، ثم مرة ثانية من (أ) وقد تأثر بالطرف الثاني للعلاقة أي (ب) وقد تأثر بالطرف الأول للعلاقة وهو (أ) وهكذا إلى ما لا نهاية. تأثير متبادل لك متغير على الأخر ينعكس في صورة رد فعل يلبس ثوب المتغير الجديد. وحيث أن الظاهرة تتعدد فيها المتغيرات إلى مالا نهاية وخصوصا عندما يتعلق التحليل بظاهرة بطبيعتها معقدة، فأن تقديم نماذج مبسطة للتحليل تقوم على أساس اقتطاع جزء من الظاهرة وفصله عن علاقة المتابعة التي تجعل نقطة البداية نقطة نهاية ونقطة النهاية فقط بداية، لا يمكن إلا أن يشوه الظاهرة موضع التحليل فإذا أضفنا إلى ذلك أن التحليل السياسي يرمي إلى اكتشاف قوانين التطور، تلك القوانين التي وحدها تسمح له بإمكانية التحكم في التطور، لفهمنا أماذا يجب أن ندخل مفهوم الدورة في عملية تحليل الظاهرة السياسية.

وإذا سلمنا بضرورة هذا الأسلوب من أساليب التحليل فيمكن تنفيذ ذلك؟ المفهوم واضح وليس في حاجة إلى الكثير من التفصيل: الأثر المتبادل يدور دائمة ويتفاعل في العلاقات الارتباطية بين المتغيرات بحيث أن الانتقال من عامل إلى آخر لا يقف ولا ينتهي أو أن شئنا هو ينتهي عند نقطة البداية التي تمثل نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة. في عجلة التنقل المتبادل بعبارة أخرى لا توجد نقطة معينة نستطيع أن نقف عندها ونقول لقد انتهيت هنا عجلة التطور.

على أننا لو غصنا في أعماق هذا المفهوم ولو حاولنا أن نربطه بالكليات العامة للتحليل السياسي، لاستطعنا أن نستخلص ملاحظات معينة جديدة بالتساؤل:

1- خلف هذا المفهوم هناك إطار عام في غير معلن عنه يفترض أن التاريخ يعيد نفسه لا يوجد شيء جديد في عالم الإنسانية وما حدث اليوم وما سوف يحدث في الغد في إطاره العام بغض النظر عن التفصيلات والفرعيات هو تكرار وتطبيق آخر لما حدث في الماضي وهنا علينا أن نتساءل: هل مثل هذه النظرة أو الفلسفة هي فلسفة علمية بمعني أنها قابلة للإثبات بأدلة علمية بتلك الخصائص التي سبق وحددناها سؤال الإجابة عليه تتدرج في فلسفة التاريخ وليس في نطاق نظرية التحليل السياسي

2-        كذلك لو ألقينا بنظرة عن الفكر السياسي الكلاسيكي وبصفة خاصة في تقاليد العصور القديمة لوجدنا أن فكرة الدورة بصورة أو بأخرى تكاد تسيطر على المفكرين السياسيين. فأفلاطون في نظريته عن النظم السياسية يخبرنا بذلك التنقل المتتابع من الأرستقراطية إلى الجمهورية إلى التيرقراطية إلى الاوليجاركية إلى الديمقراطية إلى حكم الطاغية إلى الأرستقراطية مرة ثانية.

وبغض النظر عن التفاصيل الفرعية التي هي موضع نقاش بخصوص عناصر وأبعاد هذا التصور الأفلاطوني للوجود السياسي، فإن فكرة التنقل المتتابع من وإلى أخرى والمتتابعة المستمرة في هذا التنقل حيث أن كل نظام لا يمكن أن يتولد عنه الأ صورة معينة من صور النظم السياسية. وحيث لابد وأن يقود كل ذلك إلى نقطة البداية التي منها انبعثت عملية التطور في حلقة دائمة مستعمرة لا تتوقف. أيضا المفهوم يسيطر مع خلاف في التفاصيل عي فلسفة أرسطو. ولكن تأتي العصور الآلهة لا بد وأن تصير خاتمة التطور لأنها الصورة النموذجية والحقيقية المثالية التي نجب أن نسعى إليها وكلما اقتربنا منها اقتربنا من الكمال. أفكار القديس أوجستين بهذا الخصوص واضحة ليست في حاجة إلى تعليق ولكن يجب أن نضيف بأن النواحي المنهاجية التي ساعدت أوجستين إلى رفض فكرة الدورة ولولا شعوريا هي بذاتها التي سبق وسيطرت على الفكر السياسي لبوليب الفيلسوف اليوناني الأصل الداعية لتقديس الحضارة الرومانية. المفهوم إذن ليس بجديد وإن اختلفت أبعاده وأن تنوعت وتعددت مظاهر التعبير عنه. لنذكر أبن خلدون أيضا في تراثنا القومي على سبيل المثال.

3- على أننا ونحن بصدد صياغة هذا المفهوم صياغة فكرية يجب علينا أن نتذكر وظيفته الحقيقية في نطاق التحليل السياسي، يصير المفهوم أداة عملية للتحليل يجب أن يأخذ صورة النموذج بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني: هو حقيقة افتراضية، هو أداة لاكتشاف الحقيقة ولكنه لا يقدم أكثر من ذلك. تفصيل هذه النواحي ونتائج هذا التصور نحيل بخصوصها إلى ما سوف نقدمه فيما بعد بخصوص عملية بناء النموذج في التحليل السياسي.

4- وهكذا نستطيع أن نستخلص نتيجة واضحة: هي أن تكون فكرة الدورة ممكن أن تأخذ صورة من اثنين: نظرية لتفسير الوجود السياسي. أو نموذج لبناء أطار التحليل السياسي بالمعني الأول رأينا فلسفة أفلاطون ونستطيع أن نسوى في نطاق الفكر السياسي العربي ولو مع قليل من التجاوز فلسفة ابن خلدون. هذه الفلسفة موضع مناقشة ولا تعنينا بخصوص هذه الدراسة. فأيستون يرى أن الثاني- أي نموذج- نستطيع أن نسوي مدرسة أيستوي في التحليل السياسي. وككل نظام فالنظام السياسي يجب أن نميزه بخصائص معينة عن غيرة من النظم. فلنظام السياسي يقوم على أساس وحدات معينة وله حدود معينة. بغض النظر عن التفاصيل الفرعية المرتبطة بأفكار أريستون فإن الصياغة التي ييني عليها تفسيره للظاهرة السياسية هي نموذج مبسط يجعل منه منطلقة لفهم الحياة السياسية. هذا النموذج يجعل يحيط بالنظام السياسي. العملية يأخذ الصورة الآتية: تتبع من الوسط والإطار الاجتماعي من مدخلات، هذه المدخلات التي تنصب في النظام السياسي. هذا النظام لابد وأن تنبعث منه منطلقات. المنطلقات هي قرارت سياسية. هذه المنطلقات لا بد وأن تصطدم بالوسط الاجتماعي أي بالطبقات المساندة تنبعث منها رد فعل يأخذ صورة مطاليوجية: تغيرات في القرارات. تقييد في أبعادها، أو قرارات جديدة تعود بدورها المدخلات لتنصب في النظام السياسي. وهكذا: مطالب، نظام سياسي، قرارات سياسية، رد فعل، مطالب نظام سياسي، قرارات سياسية... وتسير الدورة إلى ما لا نهاية.

قد يبدو لأول وهلة أن فكرة الدورة في كلا التطبيقيتين كعكس تصورا واحدا على أن الواقع أن هذا يتضمن نوعا من المبالغة. مما لا شك فيه أنه في كل تطبقين هناك فكرة الإطار الثابت الواحد لتسير الظواهر. ولكن في التطبيق الأول التفسير يدور حول التطور السياسي فإذا بالحقيقة السياسية وقد اتسعت مكانا وزمانا حيث التنقلات متتابعة من مرحلة إلى أخرى. ولكن في التطبيق الثاني نجد التحليل يدور حول الموقف السياسي في محاولة إبراز مسيكان تزمات العملية السياسية لتفاعل بين متغيرات مختلفة تبدأ حيث تنتمي وتنتهي حيث تبدأ هي ديناميات متابعة ولكنها دائما تتمركز حول مشكلة تحددت من حيث المكان والزمان والموضوع.

  وبعبارة أخرى لكن القول بأن أيا من المنهاجين لا يكفي لفهم الوجود السياسي وأن كليهما يكمل الأخر. الأول يرقى بالتحليل إلى مستوى الفلسفة والثاني ينزل بفهم الظاهرة السياسية إلى مستوى التجريب بحيث يمكن القول بأن الأول يدور حول الحركة والثاني يدور حول القرار.

سابعًا: نسبية التحليل السياسي:

سبق أن رأينا كيف أن مشكلة تحديد العلاقة بين المتغيرات السياسية قادت، في بعض تطبيقاتها الفرعية، إلى أيارة موضوع النسبية السياسية. على أن فكرة النسبية في نطاق التحليل السياسي ابعد من أن تتحدد فقط في تلك المشكلة بل وبنفس النظرية المنهاجية. تعرضنا لها ونحن نتناول القواعد العامة للتحليل السياسي لمجرد الربط بين الثقافة السياسية في مختلف أبعادها، فلسفة وعلم ونظرية ومنهاجية التحليل السياسي ووصف كونها أحد العناصر التي ترتبط بين مختلف أبعاده الثقافية السياسية.

والواقع أن هذه العلاقة تمثل أحد عناصر مظاهر التفسير عن ذلك الذي يسميه علماء السياسة" مأساة علم السياسة في القرن العشرين".

1-     ما هو مصدر تلك المأساة وما هي نتائجها في التحليل السياسي؟

يقول بريشت أن العامل السياسي الذي فرض تلك المأساة هو التعارض بين تقاليد القرن التاسع عشر والمنهاج العلمي الذي فرضه القرن العشرون. التقاليد تجعل من القيم العليا حقائق مطلقة لا تقبل المناقشة أو بعبارة أخرى ترفضها لأنها لا تصلح لأنها تخضع لعملية اختبار علمية. ومنهاج القرن العشرين يجعل أساس التحليل هو النسبية الذاتية. فأما الذاتية فتعنى أن كل حقيقة تتكلم بلغتها وتعبر عن وجودها. أنها ترداد لأقوال هيجل: الحقيقة قائمة، أذن فهي حقيقة ومن صم تملك كمطلق الوجود. وأما النسبية فتعنى أنها توجد حقيقة صالحة لذاتها، ولا يوجد نظام سياسي صالح في ذاته. الصلاحية ترتبط بالمكان والزمان، أو بعبارة أخرى ترتبط بالوسط الذي منه الظاهرة وبه تحددت.

ولكن لماذا نتحدث عن أزمة أو مأساة ولماذا نربط ذلك بالقرن العشرين؟

لندع بريشت يتحدث: في بداية القرن العشرين ظهرت لأول مرة نظم سياسية تقوم على أساس الإنكار الصريح لجميع تقاليد عصر العقل والنور من قيم سياسية. هذه القيم التي كانت قد أضحت في مطلع القرن العشرين جزءا من روح الجماعة الأوروبية عديدة الدولة يجب أن تستند إلى حماية كرامة المواطن وحرية الضمير الفردي، القضاء يجب أن يكون مستقلا، والمساواة أمام القانون يجب أن تكون مكفولة. لا موضع للتعذيب ولا محل للالتجاء، للعقوبات الوحشية. ولا مكان في المجتمع المتمدين لنظام الرق مبادئ الوثيقة الأساسية تعطى كل فرد الحق في سماع دفاعه أمام قاضيه الطبيعي خلال فترة معينة من تاريخ القبض عليه بحيث يتعين على النظام السياسي أن يخلى سبيله في الحال أن لم يقتنع القاضي بأن هناك تهمة محددة إلى دلائل مقبولة وموجهة إلى ذلك الفرد. العلم والفن والصحافة لا يجوز لن يخضع لأي رقابة، وظيفة الدولة هي أن تسعى لأن تحقق أكبر وسط ممكن من السعادة لأكبر عدد ممكن من الأفراد.

هذه القيم ظلت سائدة دون مناقشة. ولكن فجأة ظهرت الشيوعية السياسية في روسيا ثم أعقبتها نظم دكانثورية أخرى في ألمانيا وايطاليا وسرعان ما انتشرت الصور المسموحة من هذه وتلك في أكثر من مكان واحد. لم تكن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الإنسانية الآتي تواجه نظما تقف من القيم السابقة عليها موقف المعارض والرفض والاحتكار. كذلك ليس مما لا شك فيه أن تلك المذاهب والفلسفات الجديدة لم تكن الأولي وجد علماء السياسة أنفسهم وهم في صراح وتمزق بين حقيقتين

1-     من جانب فإن أسلحتهم العلمية ومنطقهم التحليلي القائم علي مبدأ النسبية يجب أن يقولا لأن تسلم بأن تلك النظم من الممكن- علي الأقل نظريا- أن تكون صالحة في زمان ومكان معين أي عندما ترتبط بموقف سياسي معين.

2-     ومن وجهة أخرى وجدوا أن منهاجهم العلمية غير صالحة لإثبات قدسية تلك المبادئ التي قامت عليها تقاليدهم الفكرية والتي أضحت تكون جزءا من أجزاء ترائهم الثقافي والتي جاءت النظم الجديدة تنفيها أو ترفض التسليم بها لتقييم بنيانها الفكري على قيم أخرى معارضة لها.

فرض هذا التعارض أو التناقص ما أسميناه بأزمة علم السياسة. وقد تعددت مواقف العلماء بخصوصها حتى أن بريشت يميز بين نماذج عشرة: تبدأ من رفض النسبية ذاتها وتنتهي بتجاهل المشكلة وتجنب مواجهتها أو التعرض لها.

رغم ذلك فيجب أن نسلم بأن التحليل السياسي يجب أن يستند إلى منطق النسبية. سوف نرى بعد نتائج عديدة لهذا المنطق. ولكن نكتفي هنا بأن نلخص أهم أبعاد قاعدة النسبية في التحليل السياسي:

 ا- سوف نرى فيما بعد أن أحد أبعاد التحليل السياسي هو الكشف عن وجدة التحليل. هذه الوحدة التي تصير الظاهرة السياسية بالنسبة لعلم السياسة وتصير الموقف السياسي بالنسبة للنظرية، تكون الذرة التي يبنى حولها الإطار الهيكلي لعملية التجريد المنطقية ورغم التسليم بأن الذرة النهائية التي منها تتشكل مظاهر التعبير عن الوجود السياسي هي دائما واحدة، إلا أن صورها متعددة وكل صورة لها خصائصها. فالسلطة التي هي دائما السلطة، في المجتمع الفطري لا تتمتع بخصائص نفس الظاهرة في المجتمع التكنوقراطي. والسلطة في الدولة المدنية تختلف عنها بل تكاد تتعارض في بعض خصائصها مع السلطة في الدولة الإمبراطورية.

ب-قواعد التحليل السياسي ليست قواعد مطلقة. ليست فقط كل مشكلة لها منهاجيا بل وكل مجتمع له خصائصه التي تفرض وجودها لا فقط على أبعاد المشكلة السياسية بل وعلى منهاجية تحليل الظاهرة السياسية. فمشكلة التحليل السياسي في المجتمعات المختلفة كما سبق ورأينا تختلف عنها في المجتمعات المتقدمة وينبع من هذا اختلاف في القواعد المنهاجية المرتبطة بتحليل كل من هذين التطبيقين

ج-كذلك فالقيم السياسية رغم أنها تظل جزءا أساسيا من أجزاء علم السياسة، إلا أنها تملك ذاتيتها المستقلة أيضا في التحليل السياسي. التحليل السياسي يجب أ بنوع منهاجيته تبعا لموضوع التحليل.

د-ثم ترتفع هذه النسبة في أقصاها عندما تأخذ منهاجية جديدة باسم. أسلوب دراسة الحالات. منهاج سوف نستوعبه من المنطق الطبي ونستنفع باستخداماته في نطاق علم الإدارة لنجعل منه أحد أعمدة بناء النظرية المنهاجية في التحليل السياسي.

أبعاد متعددة جميعها تتبع من مبدأ النسبية وتفصيلها في حاجة إلى دراسة أخرى عميقة سواء لمتابعة ديناميكية التحليل السياسي، سواء لتفصيل العلاقة بين قواعد المنهاجية وبين موضوع التحليل، سواء لإبراز صفة الديالكتيكية كحقيقة منهاجية ولكن قبل كل ذلك يجب أن نقدم لتحليل القواعد التي تفرضها مشكلة أدوات التحليل في مطاق المنهاجية السياسية.

كل من هذه النواحي سوف نتعرض لها في فصل مستقل.





تعليق طباعة عودة للخلف

عدد القراء: 184

عدد التعليقات: 0
مواضيع ذات صلة

 

        تعليقات الزوار

Contact Us

feel free to contact us at our Email : kamaltopic@gmail.com

Dr. Kamal Mobile is :+970599843850

رؤية وأهداف

نهدف من خلال موقعنا إلى تزويد الطلاب والباحثين والمهتمين بخدمات علمية مجانية عالية المستوى ونشر أبحاث ودراسات اكاديمية

الدكتور كمال الأسطل,

Missiion Statement

Our goal is to provide students, researchers and interested people with high standard, free of charge scientific services and to publish academic researches.

Kamal Astal,