• كلمة الدكتور

    كلمة الدكتور كمال الأسطل:

    نسعى جاهدين لدعم الطالب الفلسطيني في كافة المجالات ، واستغلال التكنولوجيا المعلوماتية لذلك قمنا بانشاء الموقع الالكتروني , ويحتوي على مميزات عديدة من اجل ...
  • التفاعل والمشاركة

  • CV - السيرة الذاتية

الأربعاء04-10-2023

الفصل السابع - صعوبات التحليل السياسي - الشامل في نظرية وهندسة التحليل السياسي

 تاريخ النشر: 10/7/2023   وقت 5:21:26 مساءً   | طباعة |  ارسل لصديق

صعوبات التحليل السياسي

 

أولاً: صعوبات التحليل السياسي

 

1- التحديد بصعوبات التحليل السياسي

سبق أن رأينا في أكثر من مناسبة واحدة أن التحليل السياسي يفرض صعوبات عملية جعلت أكثر من متخصص واحد يتساءل عن مدى إمكانية التخلص من تلك الصعوبات، وبالتالي عن مدى إمكانية الثقافة السياسية لأن ترتفع إلى مستوى الثقافة العلمية. وقد آن لنا أن نحدد هذه الصعوبات على وجه الدقة وأن نبين كيف يمكن الحد من فاعليتها، وكيف يمكن التخلص من نتائجها، ولو بطريق جزئي.

أولاً: صعوبات تفرضها طبيعة علم السياسة ووظيفته في المجتمع المعاصر

 فعلم السياسة علم تخصيص، ومن ثم على أساس التحليل الكلي دون أن يلغي التحليل الجزئي، وهو بهذا المعني يؤدي وظيفة خطيرة في المجتمع المعاصر حيث يتبعه إلى استيعاب العلوم الإنسانية الأخرى ليؤدي وظيفة كفاحية ما تبعد. من صفة الحياد والوضعية الضرورية واللازمة لإعطائه الصيغة العلمية.

ثانياً: والظاهرة السياسية لها ذاتية مستقلة، ليس فقط لأنها ظاهرة كلية، بل ولأنها تفرض خصائص أخرى من حيث التعقيد ورفض القياس أحيانا، مما يفرض علينا أن نلجأ إلى وسائل وأدوات للتحليل تعكس تلك الذاتية.

ثالثاً: كذلك مشاكل المنهاج التجريبي لا بد وأن تخلق مجموعة أخرى من الصعوبات يتعين علينا أن نواجهها بصراحة ووضوح. فالقانون العلمي يفترض التعاون بين التجريب والتجريد، وهذا العملية تثير الكثير من الصعوبات في التحليل الاجتماعي، ولا بد وأن تثيرها أيضا بخصوص التحليل السياسي.

رابعاً: فإذا أضفنا إلى ذلك أن أدوات البحث التجريبي ذاتها بخصوص عملية الإمساك بالظاهرة السياسية تفرض أنواعا أخرى من الصعوبات وخصوصا عندما ترتب بمتابعة الظاهرة كعملية تطور أي عملية تنقل متتابع من وضع إلى آخر، ومن موقف لموقف آخر، لتبين لنا مدى تعدد الصعوبات التي يفرضها المنهاج الاستقرائي في التحليل السياسي.

خامساً: كذلك مشكلة التحويل الكلي للوقائع والمدلولات السياسية. فالحياة السياسية تدور أساساً حول قيم Values أو بعبارة أخرى ظواهر تستتر خلفها أحكام، كظاهرة استقرار النظام السياسي مثلا أو ظاهرة المشاركة السياسية. وهي ظاهرة مركبة يمكن التعبير عنها بلغة رقمية وهي بطبيعتها ظواهر كيفية ومن ثم تفرض عملية التحويل الكلي.

سادساً: ثم مجموعة أخرى من الصعوبات ترتبط بمفهوم التحليل العلمي وإمكانيات أو خلل التجربة في نطاق التحليل السياسي. فالظاهرة السياسية حتى لو افتعلناها مكانا وزمانا فأن مجرد الافتعال يعني إضافة عشر جديد يشوه الحقيقة فكيف نستطيع أن نستخلص من هذه الحقيقة المشوهة افتراضا نتائج لتفسير الظاهرة في تطبيقاتها التلقائية والطبيعية.

سابعاً: وأخيرا مجموعة أخرى من الصعوبات يفرضها المنطق الرياضي وإمكانيات في نطاق تفسير العلاقة بين المتغيرات السياسية. وهل اللغة الرياضية المتداولة تصلح للتعبير عن كليات الظاهرة السياسية؟ أم أننا في حاجة إلى لغة رياضية جديدة وكيف نستطيع خلقها وقد سبق وذكرنا أن علماء السياسة يتهربون من هذا المنطق ومن هذا الأسلوب في صياغة الافتراضات ومتابعة النتائج؟

سوف نحاول أن نتناول في هذه العجالة التمهيدية بعض هذه الصعوبات وبصفة خاصة تلك التي تنبع من ذاتية الظاهرة السياسية تاركين تحليل الصعوبات الأخرى إلى موصفها المناسب.

 

2- طبيعة علم السياسة وبناء الإطار المنهاجي لعملية التحليل

طبيعة علم السياسة لابد وأن تعكس وجودها في عملية البنيان المنهاجي، سبق أن اشرنا إجمالا إلى بعض تلك النواحي، وقد أن لنا أن نجمعها في صعيد واحد لنحدد مدلول تلك الخصائص وكيفية علاجها وللتخلص من نقائصها.

أولاً: أول ما يجب أن نلاحظه أن علم السياسة علم ملتقي، بمعني أنه علم تلتقي فيه جميع أنواع وصور الثقافة الاجتماعية، وبالتالي جميع أنواع وصور التحليل الاجتماعي، وذلك نتيجة طبيعية للظاهرة السياسية: هي ظاهرة لا وجود لها في ذاتها بشكل جامد، ولكن الموقف الديناميكي وقد تحدد زمانا ومكانا هو الذي يصيغها بتلك الصيغة. إعطاء الموقف الصيغة السياسية لا ينبع فقط من المبدأ وأننا أيضا من الظروف المحيطة بذلك الموقف.

وهذه العملية تفترض تحليلا لجميع القوى المرتبطة بالموقف، من اجتماعية واقتصادية وديموجرافية،... الخ....... وبالتالي فإن التحليل لا بد وأن يتطرق إلى جميع النواحي الاجتماعية بأوسع ما تملك هذه الكلمة من معان.

لمواجهة هذه الحقيقة يتعين علينا أن نتقبل في نطاق التحليل السياسي مبدأين:

أ- مبدأ ديناميكية التحليل، وسوف نراه تفصيلا فيما بعد، ويكفي أن نتذكر أن معني ذلك أن أسلوب التحليل السياسي يجب أن يكون قائماً على التطور والحركة.

ب- كذلك يجب أن نقبل المبدأ الآخر الأكثر اتساعا وشمولاً وهو أن البحث السياسي لا يمكن أن يكون إلا قائما على أساسي التقابل والتقاطع والتعاون بين مختلف الثقافات الاجتماعية. أن فقيه السياسة الذي يتصور أن المتخصص يستطيع أن يعزل نفسه عن الأبعاد الاجتماعية، والبيئة المحيطة للظاهرة السياسية أنما يحكم على نفسه بالجمود والتحجر. وقد أوضحنا اليوم من تقاليد مراكز البحوث السياسية المتقدمة أن تضم أي مجموعة تتناول بالبحث أحد تطبيقات ظاهرة السلطة سواء في الحياة المحلية أو في العلاقات الدولية من خبراء ينتمون إلى الثقافات الاجتماعية الأخرى وبصفة خاصة التحليل الاقتصادي، التحليل النفسي والتحليل الاجتماعي، والتحليل الرياضي، والتحليل الإحصائي،. هذا التزاوج هو ذلك الذي يسمح وحده بالتخلص من الصعوبات التي تفرضها طبيعة الثقافة السياسية كعلم ملتقى.

ثانياً: كذلك علم السياسة علم تلخيص. فرغم أنه يقوم على أساس التحليل الجزئي لمقومات الظاهرة السياسية إلا أنه لا يقف عند ذلك الحد بل لا بد وأن يقدم التحليل الكلي الذي يرتفع عن الجزئيات ويسعى للإحاطة بالكليات. والتحليل الكلي بهذا المعنى ليس مجرد عملية تجميع للنتائج وإنما هو عملية ترتفع إلى مستوى التصور لتقديم خلاصة لتلك النتائج حيث تنصهر فيها النتائج دون أن تتقيد بها. علم السياسة بهذا المعني بطبيعته علم ديالكتيكي:؟ بمعنى يبين المتضادات ويتخطى التناقضات في حقيقة كلية لا تتحدد بالحقائق الجزئية بحيث تعلوها وتضمها وتحقنها في حقيقة جديدة واحدة. ولعل هذا يفسر لماذا الدين الذي يجب أن نسلم به للماركسية كمنهاجية للتحليل السياسي لا يمكن أن يكون موضع مناقشة. ورغم أننا كما سوف نرى قد تخطينا بكثير ما قدمه لنا كارل ماركس وإتباعه من أدوات منطقية في التحليل السياسي، إلا أننا يجب أن نعترف بأن فلسفته تكون خطوة حاسمة في تكامل المنطق العلمي في التحليل السياسي.

ثالثاً: علم السياسة أيضا علم توجيه. والتوجيه بمعني الكفاحية والحركية وإذا أردنا أن نترجم هذه الصفات في نطاق المفاهيم العلمية كان علينا أن نصير بين الوصف من جانب والتفسير من جانب آخر والتنبؤ من جانب ثالث والحركة من جانب رابع.

الوصف يعني تسجيل القائم بخصائصه ومواصفاته. فتحديد مثلا خصائص مجتمع سياسي معين من حيث السن بأن 50% من وحداته بين العشرين والثلاثين هو وصف لهذا المجتمع، مثل هذه الدراسة تنتمي إلى ميدان علوم الاجتماع الفرعية لأنها تقف عند الهيكلي. فإذا انتقلنا إلى التفسير واستطعنا أن نربط بين حالة القلق السياسي أو الاضطراب في النظام السياسي وعامل السن فإن هذه يعني انتقالا من الوصف إلى التفسير وهنا نبدأ نتطرق إلى علم السياسة: علم كلي وديناميكي لا يقف عند الهيكلي بل يتعداه ويرفض أن يتقيد به أو يقتصر عليه. على أن التفسير في ذاته ليس إلا نقطة البداية، لأن علم السياسة يسعى إلى التوجيه وهو لذلك يريد التنبؤ فماذا استطعنا ابتداء من هذا التفسير أن نتنبأ بحالة المجتمع السياسي يتجه إلى الاستقرار مثلا بسبب كثرة الالتجاء إلى ضبط النسل مما سوف يؤدي إلى نقص في المواليد وبالتالي إلى نوع من التوازن بين الجيل الشاب والجيل المتوسط العمر عقب فترة معينة من الزمن – عشرين عاما مثلا- فأن هذا يكون نقطة البداية الحقيقية التي سوف تلقي بنا في جوهر التحليل السياسي، أي تعني وضع السياسة سواء فهمت هذه السياسة على أنها مواجهة للمستقبل دون تغيير فيه أي بالمعني التقليدي أي بمعني التدبر، أو فهمت على أنها وضع خطة زمنية نسعى عن طريقها للتحكم في التطور المقبل للتغيير من نتائج ذلك التطور، أو على الأقل للتحكم في تلك النتائج. وهذا هو المدلول الحقيقي لكلمة التخطيط السياسي.

ليس كل بحث سياسي يفترض جميع الأبعاد السابقة ابتداء من الوصف حتى التوجيه، لكن الذي يجب أن نتذكره هو أن علاقة منطقية ووظيفية تربط هذه الأبعاد الأربعة بمستوى التحليل السياسي.

1- فالغاية من البحث هي التي تحدد الأبعاد التي يجب أن يصل إليها التحليل السياسي، فقد سبق أن رأينا أن التحليل السياسي يأخذ صورة من ثلاث الهندسة السياسية، النظرية العقائدية، النظرية التجريبية. كل من هذه النماذج يفترض مستوى ليس باللازم للنماذج الأخرى.

2- على أن الذي يجب أن نؤكده وأن نلفت النظر إليه بوضوح هو أن أيا من هذه الأبعاد الأربعة تجعل السابقة عليها لازمة دون أن نفترض اللاحقة لها.

1-             فالوصف لا يفترض ولا يستلزم التفسير ولا غيره من أبعاد التحليل السياسي كالتنبؤ أو التخطيط.

2- التخطيط لابد أن تسبقه أحداث متتابعة تبدأ من وصف القائم ثم تفسير المتغيرات الخفية التي تتحكم في وجود الظاهرة لتتابع هذا التحليل في شكل تنبؤ بالمستقبل، الذي سوف يكون أساسا للحركة أو التخطيط سواء بمعني تقبل الأوضاع القائمة من حيث نتائجها المقبلة، أو تدخلي في هذا القائم بالتلاعب في متغيراته لمنع هذه النتائج كلياً أو جزئيًا موضوعياً أو زمنياً.

3- كذلك كما أن التفسير يفترض الوصف فأن التنبؤ بمستقبل من كلا الوصف والتفسير خطوات لازمة لإمكانية تحقيقه. فوصف النظام السياسي وقد تحدد من حيث المكان والزمان لا يستلزم لأسباب وجود ذلك النظام ولا المقومات الحقيقة الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية التي فرضته زماناً ومكانناً. ولكن كيف يمكن تفسير النظام دون أن يسبق ذلك وصفاً لخصائصه ومقوماته؟ وكيف يمكن التنبؤ بسيره أن لم يسبق ذلك تفسيراً لوجوده؟

(1) الوصف في الواقع هو معرفة هيكلية بالظاهرة أو أن شئنا هو إلمام بخصائصها الظاهرية والخارجية. (2) أما التفسير فهو يعني انتقال من الخارج إلى الجوهر من الحقيقة الكمية إلى الحقيقة الكيفية. (3) التنبؤ ينصرف إلى كلا العنصرين السابقين عنصر الزمان: فهو يلقى بإشعاعات البحث والتحليل على المستقبل، هو لا يقتصر على الوصف القائم ولا على اكتشاف الطبيعة والجوهر بالنسبة للظاهرة كحقيقة تاريخية أي كواقعة وإنما ينطلق عبر الحاضر ويطلق عليه بإشاعاته إلى المستقبل ليسعى لتصور ما سوف يحدث كما وكيفيا، ولذلك فالتنبؤ يتضمن الوصف والتفسير ولكنه دائما افتراضي، (4) أما التخطيط فيعني مواجهة هذه التنبؤات المتوقعة بخطة محددة للتحكم في الأحداث.

 

3- ذاتية الظاهرة السياسية وأثر ذلك في بناء الإطار المنهاجي لعملية التحليل:

الظاهرة السياسية لها طبيعتها الخاصة وخصائصها التي لابد وأن تحدث آثارها في منهاجية التحليل المرتبط بالكشف عن طبيعتها. الظاهرة السياسية هي ظاهرة السلطة، وبهذا المعني هو عالم مستقل له منطقة وله أوامره. هذا المنطق الذي يتكون من جزئيات عديدة بعضها واضح وبضعها خفي. بعضها دائم وبعضها متغير، بعضها أصيل وبعضها تابع. هو غاية التحليل السياسي. ولكن رسائله التي لا تزال محدودة لا يمكن بالتالي إلا أن تنبع من طبيعة الظاهرة على الأقل كحقيقة وصفية انتظارا لاكتشاف جوهرها الذي سوف يسمح وحده بتحليل التناسق بين أجزاء هذا المنطق وبالتالي التكامل بين عناصره وتطبيقاته.

وهكذا فأن التحليل السياسي لا يزال يخطو خطواته الأولى محاولا أن يعبر في بنائه لمنطقة وأدواته على الخصائص الوصفية أو العلاقات الخارجية لظاهرة السلطة، وهو هنا لا يزعم بأنه بهذا المعني قد وصل إلى المكان أو أنه قد استطاع أن يقول كلمته النهائية في عملية البنيان المنهاجي للتحليل. ولكن يعلم بأن هذه هي نقطة البداية التي سرعان ما سوف تكملها أدوات أخرى ومسالك جديدة تكون أكثر تفسيرا عن طبيعة الظاهرة عندما يقدر له اكتشافها اكتشافا كليا. فقط في تلك اللحظة سوف يصير منطق كاملاً متكاملاً.

 

4- النتائج التي تترتب على كلية الظاهرة السياسية

سبق أن رأينا بعض مظاهر ذلك في المنطق السياسي. فالظاهرة السياسية ظاهرة كلية. ويترتب على ذلك ضرورة الوصول إليها عن جميع المسالك وبجميع الأدوات ومن هذا تتفرع مجموعة من النتائج.

1-        فكرة تعدد الأدوات. Tools فالتحليل السياسي يجب أن يجمع بين أكثر من أداة واحدة وتعدد الأدوات يزيد من سلامة النتائج ودقة مدلولها ن وسبق أن ذكرنا في عملية جمع المعلومات أنها يجب أن تستند إلى كلا المصادر التوثيقية والميدانية، وسوف نرى فيما بعد أن جميع المعلومات الميدانية يجب أن نصل إليه من أكثر من طريق واحد أن كل أداة تضبط الأخرى ولا بتأكيد نتائجها.

2-        كذلك يترتب على هذه الخاصية أن الظاهرة يجب أن نصل إليها من جميع المسالك بغض النظر عن فلسفتنا المتعلقة بطبيعة الظاهرة السياسية. فوصف الظاهرة بأنها ظاهرة قانونية مثلا، لا يمنعنا من أن نصل إلى الظاهرة أيضا عن طريق المسلك النفسي أو السلوكي.

ج- كذلك تفرض هذه الصفة ضرورة الجمع في البحث السياسي بين التحليل الميكروكوزمي Microcosmic والتحليل الماكروكوزمي Macrocosmic، الأول تحليل جزئي يبحث في جزئيات الظاهرة والثاني كلي يتناول الظاهرة كحقيقة كلية دون أن يقف أمام مقوماتها أو جزئياتها المختلفة.

على أن هناك صعوبات أخري يثيرها ذلك الفريق من العلماء الذي يفرض أو يشكك في جدية الصفة العلمية للتحليل السياسي. سبق أن رفضنا مثل هذا الاتجاه ووصفناه بأنه يمكن عدم كفاية عملية أكثر من أي اعتبار آخر ولكن هذا لا يمنعنا من ضرورة تناول هذه الصعوبات لنحدد طبيعتها ولنكشف لا فقط مدى ما تفرضه من دقة في عملية التحليل بل وكذلك كيف يمكن التخلص منها بأدوات أخرى جانبية تسمح بشل ايجابية هذه الصعوبات.

 

ثانيًا: صعوبات تحليل الظاهرة السياسية وكيفية مواجهتها والتخلص منها

يمكن إيجاز أهم هذه الصعوبات في الخمس عناصر التالية:

 1- تعدد المتغيرات المرتبطة بالظاهرة السياسية.

2- رفض الظاهرة السياسية الخضوع لعملية التجريب

3- صعوبة قياس الظاهرة السياسية.

4- انعكاس نتائج التحليل السياسي على الحركة المقبلة.

5- ظاهرة التحيز وعدم الحياد

فلنتناول الصعوبات الأربع الأولى بشيء من الإيجاز على أن نتعرض للناحية الخامسة بالكثير من التفصيل.

 

الإشكالية الأولي: الظاهرة السياسية ظاهرة مركبة ومتعددة المتغيرات

أول هذه الصعوبات هي تلك الصفة التي توصف بها عادة الظاهرة السياسية بأنها ظاهرة مركبة. فككل ظاهرة اجتماعية تتكون الظاهرة السياسية من العديد من القوى والمقومات بعضها داخلي وبعضها خارجي، بعضها مؤقت وبعضها دائم، بعضها علني وبعضها خفي، والظاهرة السياسية تضيف إلى ذلك أنها تفترض وتتضمن جميع صور الوجود الاجتماعي؛ ذكريات الماضي وآلام الحاضر وآمال وتوقعات المستقبل، الحاجات المادية لأعضاء المجتمع وتلك غير المادية أو المعنوية. كذلك التفاعل المتبادل بين الوقائع المادية والأفكار أو الأيدولوجيات تضيف إلينا عنصراً آخر من عناصر لتفيد إلى كيف أن الظاهرة الاجتماعية لا تتعامل إلا مع الإنسان. التعامل مع الأشياء يجعل موضوع التحليل محدد ومقيد وهو سلوك وحدة التحليل في عالمها المستقبل أما عندما نتعامل مع الإنسان فإننا نجب أن نجعل لمشاعره ولأحاسيسه أهمية خاصة مع ما يفرضه ذلك من تعدد في المتغيرات إلى مالا نهاية، لأن كل مواطن له عالمه الذي لا يختلف فقط من مواطن لمواطن بل يختلف بالنسبة لنفس المواطن من موقف إلى موقف. هذا التعقيد في الظاهرة الاجتماعية مع ما يترتب عليه من تعدد المتغيرات إلى مالا نهاية، يجعل عملية البحث التجريبي بمعني البحث القائم على أساس الملاحظة والمشاهدة أمر في منتهى الصعوبة والتعقيد، فهو في حاجة إلى إعداد طويل سابق من حيث بناء الافتراضات وإعداد الحالات ونماذجها موضع البحث وجمع المعلومات، ثم هو في حاجة إلى تكرار متتالي لمواجهة اختلاف التعقيبات والتعقيدات والتشابك لنفس الموقف حيث يتغير عامل الزمن بل أن هذه الصعوبة في بعض الأحيان قد ترتفع إلى حد استحالة تنفيذ البحث. الواقع أن الأمر الذي يجب أن نسلم به هو تعدد المتغيرات المرتبطة بالظاهرة السياسية، وهو في هذا يختلف عن العلوم الأخرى حيث أن الظواهر أقل تعقيداً ومن ثم فاكتشاف العلاقات أكثر سهولة.

 

كيفية التغلب على هذه الإشكالية

واضح أنه إذا لم نستطيع اكتشاف العلاقات بين المتغيرات وتنظيم هذا الاكتشاف فمن الصعب الحديث عن الصفة العلمية لموضوع التحليل، على أن الرد على هذه الصعوبة سهل وواضح:

أولا: فهي تثير مشكلة تنظيم البحث التجريبي وليست بمشكلة منطقية هي تتحدث عن تعدد المتغيرات ولكنها تشكلت في إمكانية اكتشافه، وهكذا تصير هذه الصعوبة شكلية لا موضوعية، مفترضة لا حقيقية، أو على الأقل فإن الرد عليها بكيفية النجاح في اكتشاف بعض المتغيرات، ورفع الاكتشاف إلى مرتبة القانون في معناه العلمي.

ثانيا: كذلك من الذي يستطيع أن ينكر الصفة العلمية على العلوم الاجتماعية كعلم النفس أو علم الديموجرافيا. هل موضوع علم النفس ليس هو الإنسان بمتغيراته المتعددة؟ وهل لم يستطع علم النفس أن يقدم نتائج علمية مذهلة تثبت إمكانيات التنبؤ في نطاق السلوك الفردي؟ وما الفارق بين علم النفس وعلم السياسة بهذا الخصوص؟

ثالثا: ومن الذي قال بأن الظواهر الطبيعية لا تتضمن إلا القليل من المتغيرات لو أننا القينا نظرة على تاريخ الثقافة العلمية لوجدنا أن نفس هذا التساؤل وهذه المشكلة أثيرت في خلال العصور الوسطى عندما تحدث بعض العلماء ومن بينهم جاليلو عن علم الحركة. ومنذ عهد ليس ببعيد أثيرت المشكلة عندما تحدث العلماء في علم الفلك ومع ذلك فقد استطاع الفكر البشري أن يتخطى تلك الصعوبات ولم يعد احد يستطيع أن يشكك في عملية تحليل ظاهرة الحركة، ولا تحليل الظاهرة الفلكية.

وهكذا فإن هذه الصعوبة لا تعد وأن تكون مشكلة قدرة علمية وإمكانيات مادية وليست حجة منطقية للتشكيك في قدرات التحليل السياسي وهذا لا يمنع من أنه على كل باحث سياسي أن يتذكر كم هو مرهق أن يكتشف ذلك النظام الخفي الذي يحكم ظاهرة الوجود السياسي. وهو لذلك يجب أن يضع في اعتباره دائما:

1-             أن التحليل السياسي يجب ألا يعيش بمعزل عن الثقافات الاجتماعية الأخرى، أو بعبارة أخرى يجب أن يتذكر أن كل مشكلة لها مناخها ومن ثم يتعين عليه أن يقوم بعملية أقلمة متتالية ومستمرة لمناهج البحث التقليدية بخصوص كل مشكلة يتعرض لها، بعبارة أخرى عليه أن يتذكر أن مناهج البحث بمثابة رداء اعد مقدما وأنة بمثابة مشتر لهذا الرداء في حاجة إلى أن يصلح من بعض جزئيات ليصير صالحا للاستعمال. هكذا مناهج التحليل بالنسبة لجميع المشاكل السياسية.

 

الإشكالية الثانية: عملية التجريب وإمكانياتها في نطاق التحليل السياسي

الصعوبة الثانية وهي امتداد لصفة التعقيد نقصد بها رفض الظاهرة السياسية الخضوع لعملية التجريب. هذه الصعوبة ليست قاصرة بدورها على علم السياسة وإنما تمتد لتشمل جميع العلوم الاجتماعية أو أغلبها. يقصد بذلك إمكانية اقتطاع الظاهرة من العالم الذي تنتمي إليه وافتعالها في عالم آخر مستقبلي ومصطنع بحيث نقود ونتحكم في الظاهرة منذ وجودها، ومن ثم نخضعها للملاحظة والمشاهدة لا فقط المباشرة بل والمفتعلة والمتحكم في متغيراتها فلو أردنا مثلا أن نكتشف اثر محلول معين على ظاهرة عضوية معينة فليس علينا سوى أن نأتي بحيوان ونصعه في مكان منعزل ونخضع خلاياه لتلك المادة التي نريد أن نكتشف آثارها ثم نتابع تطورات الخلايا لحظة بلحظة نحدد آثار ومظاهر التفاعل بين هذين العاملين. هذا الأسلوب من البحث الذي يوصف بأنه الأسلوب المعملي يفترض ابتداء شرطين: الشرط الأول إمكانية فصل ظاهرة معينة عن العالم الذي تنتمي إليه. الشرط الثاني إلا يترتب على ذلك الفصل تغيير في جوهر الظاهرة.

واضح أن هذه العملية من الممكن إجراؤها بخصوص الظواهر الطبيعية وبصفة عامة جميع الظواهر الجزئية، أما الظواهر الكلية كالظاهرة الفلكية في نطاق العلوم الطبيعية، والظاهرة السياسية في نطاق العلوم الاجتماعية فأنه من المستحيل أو على الأقل من الصعوبة بمكان تصور إجراء أو تطبيق مثل هذا الأسلوب من أساليب التحليل فكيف يمكن أن نتصور مثلا ظاهرة القيادة السياسية، أو انتزاع ظاهرة المشاركة السياسية من الجسد السياسي وإخضاعها لعملية التجريب مع التحكم في جميع عناصرها ابتداء من وجودها حتى فنائها؟ ولو أمكن ذلك –بطريق الافتراض- فكيف يمكن أن نتصور أن النتائج الذي نصل إليها عن طريق منهاجية ظاهرة مصطنعة تصير صالحة لتفسير الظاهرة في حقيقتها التلقائية.

لا شك في أن عملية التجريب بالمعني السابق ذكره ذات أهمية عظيمة في بناء النتائج العلمية. وليس موذ فقد إلى إمكانية التحكم في الظاهرة. ذلك أن هناك صورة معينة من صور التحليل لا يسمح بها إلا البحث العلمي والتي تقوم عل أساس تثبيت جميع المتغيرات عدا متغير واحد ثم إخضاع هذا المتغير لعملية تجريب على أساس مجموعتين من الوحدات متشابهتين في جميع الخصائص إحداهما يصير فيها هذا المتغير ايجابي والأخرى يصير فيها المتغير سلبي ثم مقارنة نتائج كلا المجمعتين فلنفترض مثلا أننا نريد دراسة العلاقة بين ظاهرة الدخان ومرض السرطان. فإذا أتينا كالسن والجنس مثلا وكلا منهما تخضع لنفس الظروف التي تخضع لها المجموعة الأخرى من حيث المعيشة والغذاء ثم أخضعنا المجموعة الأولى لعامل استنشاق الدخان والثانية لم نعوضها لهذا العامل. فإن هذه التجربة تسمح بإمكانية التأكد أو رفض صحة ذلك الافتراض. كذلك أخضعنا مجموعة ثالثة تتصف بنفس الخصائص لذلك المتغير بكثافة أو كمية أقل فإن النتائج لابد وأن تزيد من دلالة الاستنتاج وتدعم من معناه. ظاهرة من هذا أن هناك فارقا واضحا بين البحث التجريبي وخلق التجربة الأول يعني فقط الإمساك بالظاهرة مباشرة أي جمع المعلومات عن الظاهرة عن الطريق الاحتكاك المباشر لها في مختلف مراحل تطورها. بهذا المعني يوصف أنه منهاج يقوم على أساس جعل الخبرة المباشرة مصدر لجمع المعلومات. التجريب لا يعني فقط أن يشاهد الباحث الظاهرة، وإنما يعني أن يرتفع إلى حد المشاركة في تطورها الكلي أو الجزئي على أن يصل إلى حد افتعال الظاهرة لذاتها مع التحكم في تطور الظاهرة سواء في كلياتها أو في بعض المتغيرات المرتبطة بالظاهرة.

علم السياسة يرفض التجريب بهذا المعني، أو على الأقل هذه العملية يستحيل تصور تنفيذها إزاء الظاهرة السياسية. سبق أن ذكرنا أسباب ذلك: كيف نأتي بزعيم سياسي ونضفة في العمل ونخضعه لتجربة معينة؟ وكيف نتصور إمكانية جمع عدة زعماء وإخضاعهم لتحليل معملي مع المقارنة بين كل منهم من حيث مظاهرهم السلوكية؟ وإذا قبل عدة زعماء تلك التجربة، فليس اختلاف تلك التجربة يضفي عليها صفة الاصطناع الذي يجعل العملية بأجمعها تختلف اختلافا كليا من الواقع الحي؟ ومن ثم أي دلالة تستطيع أن تستخرجها من مثل تلك التجربة لتصير أساسا لقانون علمي؟

عدم الصلاحية للتجريب إذن حقيقة مسلم بهذا ولكن التحليل السياسي يسمح بتقديم مكملة تصلح لسد هذا النقص:

1-             التجريب على مستوى الميكرو. فالظاهرة السياسية تتكون من العديد من الظواهر الجزئية. والظواهر الجزئية صالحة لإجراء عملية التجريب، ومن ثم فإن عملية التجريب بالنسبة لجزئيات الظاهرة السياسية من الممكن تصورها. ونظرية الرأي العام حافلة بالنماذج: ظاهرة الإشاعة، ظاهرة الصنف الجماهيري، ظاهرة الزعر ليست إلا بعض نماذج وتطبيقات.

2-             كذلك التجريب في نطاق التحليل السياسي يصير أداة مكملة لتأكيد النتائج فاصطناع الظاهرة وكون التجريب تم على مستوى الجزء وليس على مستوى الكل لا بد وأن يقيد من الدلالة. وتقييد الدلالة هنا سوف يأخذ صورة تقييد إطلاق النتائج.

3-             كذلك سوف يأتي التاريخ أو دراسة الماضي ليقوم بوظيفة مماثلة لوظيفة البحث المعملي. فالبحث المعملي بصفة عامة ليس إلا أسلوبا من أساليب التأكد من صحة الافتراض وإذا كنا لا نستطيع أن نتأكد من صحة ذلك الافتراض في نطاق التحليل السياسي على أساسي التحليل المعملي، فإن متابعة التاريخ والوقائع الماضية تسمح بتحقيق هذه الوظيفة. المتابعة التاريخية تصير بمثابة معمل للتأكد من صحة النتائج والافتراضات التي وصلنا إليها عن طريق المشاهدة والملاحظة سواء بطريق المصادفة أو بفضل النبوغ. ثم يأتي التحليل المعملي في نطاق التحليل السياسي ليزيد من تأكيد صحة هذه الافتراضات.

 

الإشكالية الثالثة: هل الظاهرة السياسية تقبل القياس الكمي؟

الصعوبة الثالثة التي يواجهها التحليل السياسي عن تلك المتعلقة بعملية القياس الكمي فما الذي يقصد أولا بهذه العملية؟

القياس يقصد به إخضاع الظاهرة لمقاييس كمية تسمح بمقارنتها بغيرها من الظواهر استنادا إلى خصائص قيمة. فمثلا عندما يقال أن (1) أطول من (ب) فأن هذا يعني حقائق منهاجية متتابعة: أولا أن ظاهرة الطول، وهي حكم قيمي، من الممكن قياسها وثانيا أن هذا القياس ثم بأداة معينة قابلة للتطبيق على أ و ب وعلى غيرها من الوحدات وظلنا أن هذه الأداة تستند إلى وحدة كمية بحيث يعبر عنها بلغة رقمية سواء كانت وحدة الطول السنتيمتر أو الروصة أو غيرها. فإن هذا لا يعنينا إنما الذي يعنينا أن هناك وحدة وأن هدف الوحدة تعكس بلغة رقمية وأن القياس بهذا المعني قابل للتطبيق بغض النظر عن عاملي الزمان والمكان القياس الكمي بهذا المعني يدور حول مفهوم أصيل وهو أن المعرفة بالظاهرة لا يمكن أن تتم إلا إذا تحولت إلى حقيقة رقمية. فالمعرفة يجب أن تتجه لا فقط إلى الكيف بل وكذلك إلى الكم.

هذه الصعوبة واجهتها جميع العلوم الاجتماعية ولكن العلوم النفسية استطاعت أن تتخطاها حيث خلقت أدوات للقياس أثبتت التجارب خلال نصف قرن من الزمان صلاحيتها ودقتها العلمية. فالمقاييس المتعلقة بقياس الشخصية وتلك الخاصة بقياس الاتجاهات أصبحت عديد لا حصر لها.

والسؤال الذي نثيره: كيف يستطيع علم السياسة أن يسد هذا النفس أو بعبارة أخرى أن يقدم مقاييسه لمختلف مظاهر الوجود السياسي؟

صعوبة حقيقة ولكنها بدورها من الممكن تخطيها:

1-             فأول ما نلاحظه هو أن علم السياسة بدا باستخدام المقاييس النفسية بصفة خاصة في نطاق نظرية الاتجاهات السياسية. من المعلوم أن من أهم المقاييس المعروفة في نطاق التحليل النفسي مقياس"ليكرت" و "ثراستون" هذين المقياسين رغم عيوبهما كانا أساسا للكثير من الأبحاث السياسية.

2-             على أنه إلى جانب ذلك فإن بعض علماء السياسة وبصفة خاصة في نطاق نظرية الاتجاهات السياسية استطاعوا عن طريق التعديل والأقلمة لتلك المقاييس أن يتقدموا خطوة أخرى بأن يجعلوا من تلك المقاييس أداة أكثر صلاحية لقياس الظاهرة السياسية. من هذا القبيل محاولات عديدة للجمع بين مقياس ليكرث وتراستون في أن واحد ومن هذا القبيل أيضا مقاييس "ادورنو" وايسنت وموسكو فيتس.

3-             على أننا في الوقت الحاضر نلاحظ اتجاها أخر يعكس مدى تقدم علم السياسة في محاولة بناء مقاييس جديدة مستقلة استقلالا كاملا عن تقاليد التحليل النفسي ويظهر هذا بشكل واضح في قياس ظاهرة المشاركة وكذلك إلى حد ما في قياس ظاهرة تفسير الرأي السياسي.

رغم ذلك فلا يجوز لنا أن نتصور أن هذه الصعوبات محدودة الأهمية. أنها تمثل مشكلة خطيرة في نطاق التحليل السياسي لأنها تفترض إمكانية التعبير عن الظواهر السياسية بلغة رقمية والتحويل الكمي يفترض أن الظاهرة موضع التحليل ذات الخصائص فقط كمية. الظاهرة السياسية على العكس من ذلك أساسا هي ظاهرة كيفية. فكيف يمكن التعبير عنها بلغة رقمية؟ سوف نرى فيما بعد أن كل هذه المشكلة في نطاق التحليل السياسي ثم على أساسا جعل التعبير الكمي تعبيراً غير مباشر بمعني أن الظاهرة السياسية أو بعبارة أدق ظاهرة الكيف السياسي تعبر عن وجودها بعناصر خارجية. ومن ثم تصير وظيفة عالم السياسة للبحث عن تلك العناصر الخارجية التي تعكس بوجود حقيقة حركية معينة، ثم اكتشاف علاقات معينة بين هذه العناصر تسمح بتقييم رقمي لكل منها. فإذا وصلنا إلى ذلك المستوى من الاكتشاف فليس علينا سوى أن نطيق ذلك الاكتشاف بحيث يكون مجموع تلك الحقائق الرقمية مكونا لدلالة مفترضة على وجود الظاهرة وعمق تلك الظاهرة. فمثلا ظاهرة الولاء السياسي: لو استطعنا أن نكتشف علامات التعبير عن هذه الظاهرة السياسية كدفع الاشتراك في الحزب بانتظام. أو حضور الندوات بانتظام أو التصويت بالتأييد الخ...... ثم استعنا أن عطي لكل من هذه المظاهر رقم حسابي فإذا أردنا أن نكتشف بخصوص شخص معين ظاهرة ولائه للتنظيم السياسي فليس علينا سوى أن نتساءل عن وجود تلك المظاهر وإعطاء الرقم لكل من تلك المظاهر أن وجدت وإجراء عملية الجمع بالإيجاب أو السلب. ومن هذا نستطيع استنتاج وجود ظاهرة الولاء من عدة فضلا عن التعبير عنها بلغة رقمية تسمح بالمقارنة بين شخص أخر.

 

الإشكالية الرابعة: التحليل السياسي ونتائجه الحركية

الصعوبة الرابعة والأخيرة وهي الخاصة بانعكاس نتائج التحليل السياسي على الحركة المقبلة نقصد بذلك أن التوصل إلى التحليل السياسي بناء على قوانين علمية قد يؤثر في بعض الأحيان في السلوك السياسي ذاته بالنسبة للمستقبل فمثلا التنبؤ باتجاه السلوك الانتخابي إلى تأييد حزب معين وإعلانه قد يكون في ذاته عاملا في التأثير على السلوك السياسي فإذا بالمتردد أصلا يندفع في ترجيح ناحية الحزب الذي أعلن عن التنبؤ بنجاحه. الواقع أن هذه صعوبة حقيقية ولكنها لا يجوز أن تكون مصدرا للتشكيك في عملية التحليل السياسي وهي غير قاصرة على الظاهرة السياسية بل تتعداها إلى جميع الظواهر الاجتماعية. هذا فضلاً عن أنه قد تحدث النتيجة العكسية كما حدث في الانتخابات البريطانية عام 1970 والواقع أن هذه الصعوبة لا تتعلق بجوهر مشكلة التحليل السياسي وإنما بمدى الاستفادة منه في الأبعاد الحركية. ولو نظرنا إلى حقيقة هذه الصعوبة لوجدنا أنها تؤكد عملية التحليل السياسي لأنها تثبت صحة النتائج والتوقعات وتثبت أيضا أن نفسر إعلان هذه النتائج- وهو متغير جديد لعنين وجوده إلى الموقف التالي للتنبؤ لم يكن له موضع في الموقف السياسي السابق على عملية التنبؤ- في نفس الوقت الذي يقوم التحليل السياسي صحة جديدة لتؤكد عملية وقدرته على الوصول إلى أدنى التوقعات المرتبطة بظاهرة السلوك السياسي يطرح التساؤل الذي لا يقل خطورة من الناحية المنهاجية. إلا يترتب على إعلان نتائج متوقعة نسبة التطور التلقائي حيث هذا الإعلان يدفع بقوى معينة كانت لا تزال مترددة في اتخاذ سلوك وموقف ما كانت تتجه إليه لو لم تعلن النتائج؟

سؤال لم يستطع بعد الفقه أن يجيب وهو يطرح أخطر مشكلة على فقه التحليل السياسي وبصفة خاصة المرتبط بدنياميات الحياة السياسية. أن يجيب عليه.

 

الإشكالية الخامسة: ظاهرة التحيز وعدم الحياد

العقبات التي تواجه المتخصص في الثقافة للسياسية والتي تقف أمام عملية التحليل السياسي لكنها من الارتفاع إلى المرتبة الوضعية اللازمة لإعطائها الصفة العلمية عديدة وسبق أن جمعناها في سبعة مجموعات. رأينا البعض منها يعود إلى طبيعة الظاهرة السياسية ظاهرة مركبة ترفض التجريب ولا تقيس القياس، كذلك رأينا مجموعة أخرى من العقبات تفرضها طبيعة علم السياسة: علم تحليل وتلخيص وتوجيه في أن واحد إحدى الصعوبات التي تجمع بين كونها نتيجة لطبيعة الثقافة السياسية في المجتمع المعاصر من حيث كونها ثقافة هاجية وكونها من جانب آخر نتيجة لطبيعة الظاهرة السياسية حيث أنها تفترض نوعاً من التبادل والتأثير بين مقوماتها وبين الباحث عن الحقيقة مهما استطاع أن يوقع عن هذه العلاقة الإنسانية بحيث تمنعه من أن يرى الحقيقة وأن يراها كاملة. هذه الصعوبة توصف تارة بأنها ظاهرة التحيز وتندرج تارة أخرى تحت كلمة عدم الحياد وفي بعض الأحيان يعبر عنها الفقهاء باصطلاح "عدم قابلية السلوك الفردي لأن يخضع لعملية الحتمية من حيث نتائجها. ولكن في جميع هذه التطبيقات الفكرية فالمشكلة واحدة وهي كيف نفصل ظاهرة السلطة وملحقاتها عن شخص الباحث ومقوماته؟ كيف نجعل الباحث يصير مجرد أداة لاكتشاف الحقيقة لا لصبغ الحقيقة بإشعاعات لا من منطقة وإنما من عواطفه؟

فالعلم ليصير حقيقة وليقدم نتائج دقيقة يفترض الحياد من جانب الباحث. أن الحقيقة يجب ألا تتلون بوجهة نظر الباحث لأنها واحدة ولا يمكن أن تكون سوى واحدة بحيث يجب أن تكون دائماً هي نفس الحقيقة مهما تغيرا الباحث عنها أو اكتشفها العلم يكتشف ويفسر ولكنه لا يخلق ولا يشكل.

هذه المشكلة لا وجود لها في التحليل الظواهر الطبيعية. فالظاهرة تجيب على علامة الاستفهام عن جوهرها بذاتها أو بعبارة أخرى فإن الإجابة تنبع من نفس الظاهرة والباحث ليس عليه سوى أن يجد الأداة الصالحة للوصول إلى تلك النتيجة الظاهرة بعبارة أخرى تتكلم ووظيفة الباحث هي أن يجعلها وهي بطبيعتها خرساء تجد الرموز الذي تسمح لها بأن تعلن عن خصائصها فماء مثلا إذا وضع على درجة حرارة معينة يتحلل إلى عناصره الأولية. وهكذا الباحث ليس عليه سوى أن يكتشف ذلك العامل الذي يسمح بتحقيق عملية إعادة الظاهرة إلى أسلوبها التكوينية وهو هنا عامل الحرارة.

أما الظاهرة الاجتماعية فإنها لا تجيب على السؤال من واقع ذاتها وإنما يتعين على الباحث أن يقدم تصوره أو أن يتفاعل مع منطقة بتصوره للظاهرة. هذا التفاعل يعني أن تحليل الظاهرة هو نقطة التقاء بين منطق الباحث ونتائج التحليل. وحيث أن منطق الباحث لا بد وأن يكون ذاتيا فأن النتيجة لابد وأن تخضع لتعدد وذاتية المنطق.

على أنه إذا كانت هذه الناحية من الممكن إلى حد ما التحكم فيها أو على الأقل التخفيف من حدة نتائجها في نطاق العلوم الاجتماعية. فإن الأمر على عكس ذلك بالنسبة للتحليل السياسي. حتى أن هناك من يناقش في نفس مفهوم الحياد في نطاق ظاهرة السلطة.

أولاً: فأولا سؤال لابد أن نجيب عليه ونحن بعد تحليل ظاهرة التحيز هو هذا الاستفهام من علم السياسة علم كفاحي؟ بمعني هل يجب أن يقف من الدولة موقف المساند والمؤيد بلا وضعية وبلا حياد؟ في غير هذا الوضوح سبق أن رأينا كيف أن علم السياسة يفترض الوضعية وكيف أن النظرية السياسية تفترض الكفاحية. ولكن الكفاحية هنا لا تعني المسايرة ولا تفترض الالتزام وإنما تعني التخلص التكنولوجي الذي يسمح بقيادة التطور والتحكم فيه وتضع جانيا مشكلة الالتزام حيث أنه لا موضع لإثارته.

ثانياً: ويرتبط هنا أيضا بموضوع التحليل السياسي عندما يتمركز حول مشكلة القيم فمن المعلوم أن القيم تمثل جزءا أساسيا من أجزاء الثقافة السياسية. ولا يستطيع أي عالم بالسياسة أن يناقش في صحة هذه الحقيقة. فالقيم التي يمكن أن تعرف بأنها الناحية المعنوية للوجود السياسي هي التي تتحكم في الظاهرة السياسية وهي التي تفرض وجودها على التطور السياسي سواء كعنصر من عناصر التطور سواء كعقبة ضد التطور والقيم ترفض: قول أعداء السياسة- التحليل التجريبي أو الدراسة الواقعية لأنها بطبيعتها أخلاقيات تتبع من الذات ولا تقبل المناقشة هي حقائق مجردة ومفاهيم منطقية ترفض الإثبات التجريبي ولا تقبل أن تخضع لذلك الأسلوب من أساليب اكتشاف الحقيقة. على أن هذه الاعتراضات أيضا غير وجيهة. فالقيم السياسية هي حقائق مجردة بين ثم تفرض أسلوبها وأداتها الخاصة بها والمعبرة عن طبيعتها. وهذا ليس إلا تطبيقاً لنظرية البحث العلمي التي يصير البحث التجريبي بالنسبة لها أحد الفرعيات التي تتبع من تلك الحقيقة المطلقة وهي مفهوم البحث العلمي فالتحليل العلمي يفترض أن أداة البحث تتبع من طبيعة الظاهرة بل ولا تنبع إلا من تلك الطبيعة فإذا كنا نستطيع أن نحلل الماء بإخضاعه لدرجة حرارية معينة – فهل نستطيع أن نحلل أي مادة حية بإخضاعها لنفس الأسلوب أو لنفس الأداة للكشف عن طبيعتها؟ كيف نستطيع مثلا أن نحلل القيم السياسية لأساليب للبحث التجريبي

ترتبط فقط بإثبات الوقائع والأحداث؟ لقد سبق أن ذكرنا بأن موضوع التحليل السياسي قد يكون قيم سياسية وقد يكون وقائع وقد يكون نظم وقد يكون قرارات وكلا من هذه الكليات تفرض منهاجها وأسلوبها في التحليل. كذلك أساليب البحث التجريبي ترتبط فقط بالوقائع والأحداث أو ما في حكمها.

كذلك يجب أن نضيف أن كل قيمة سياسية يمكن أن ينظر إليها من أبعاد ثلاث فهناك المبدأ أو القيمة السياسية في ذاتها، ثم هناك التطور السياسي المرتبط بذلك المبدأ أو بتلك القيمة. ثم هناك الدلالة التي تستطيع أن تستخلصها من المشاهدة والملاحظة ومشاهدة لذلك المبدأ أو لتلك القيمة كتطور سياسي وقد ألغي عاملي المكان والزمان هو ملاحظة ومشاهدة لأنه وقائع وأحداث. أما الثالث الذي هو ميدان علم السياسة فهو على وتعانق بين التجريب ومقتضياته والتجريد ودلالته.

ثالثاً: ثم تأتي ظاهرة المشاركة. ونقصد بذلك التفاعل والتجاوب بين المواطن والسلطة لا يعنينا أن يؤدي ذلك التفاعل إلى موقف التأييد أو المعارضة ولكن الذي يعنينا أنه لا بد وأن يؤدي إلى نوع من الاهتمام والاندماج بين المواطن ومشكلة السلطة. هذه المشاركة التي تصير أحد وظائف النظام السياسي حيث يتعين عليه أن يخلق علاقة الاتصال بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة لا بد بالنسبة لعالم السياسة أن تحدث نتائجها السيئة. فعالم السياسة مواطن كأي مواطن أخر.

وطبيعة المجتمع السياسي المعاصر تفرض هذه الظاهرة. فكيف تنتزعه من نتائجها عندما تنتقل من نطاق وجوده كمواطن عادى إلى نطاق نشاطه المهني كمحلل سياسي وإذا فرضنا عليه عدم الالتزام، فهل تستطيع أن تمنعه من حالة التمزق التي لا بد وأن تحدث آثارها في عملية التحليل السياسي.

رغم ذلك فإننا لم نقل بعد الكلمة النهائية في عملية الحياد وعدمه وكيف يمكن تحقيقه وضرورته إزاء ظاهرة السلطة.

فالنتائج المناقشة ابتداء من كلياتها:

كيف وإلى أي حد طبيعة الظاهرة السياسية تفرض نوعا معينا من عدم الحياد؟

أول ما يجب أن نثيره كيف وإلى أي حد طبيعة الظاهرة على عالم السياسة لا يكون محايداً؟ سؤال قد يبدو مخالفا للمنطق العلمي- ولكن يجب أن نتذكر أن المنطق العلمي هو واقعية وأن هذه الواقعية هي وحدها التي تسمح بفهم طبيعة الظاهرة وأبعاد الحركة المرتبطة بالكشف عن تلك الظاهرة.

لقد سبق أن رأينا أن الوجود السياسي ليس فقط وقائع ولكنه أيضا قيم وعقائد وعالم السياسة لا يستطيع أن يفصل نفسه ويعزل فكره عن عقيدته. وهو مطالب بأن يساهم في التطور البشرى لأن هذه هي الوظيفة الكفاحية لعلم السياسة. فهل يستطيع أن يفصل تحليله بين عاطفته وفكرة؟ قد يكون هذا مستحيلا في تحليل القيم السياسية ولكن ألا يعكس ذلك أيضاً وجوده على الوقائع؟ بل ألا يعكس وجوده ولو بطريق لا شعوري على نفس عملية اختيار المشاكل التي يثيرها الباحث؟ و أليس الفكر المعاصر يقدم لنا مثلا واضحا يؤكد ذلك؟ الفكر الشيوعي من جانب والفكر الرأسمالي من جانب آخر أليس كلا منهما حتى في نطاق التحليل العلمي للظاهرة السياسية قد انقلب فأضحى بوقائع يدافع عن وجهة نظر إحدى الكتلتين؟ و أليس هذا الوضع قد خلق نتائجه وأحدث مظاهره في الفكر السياسي المرتبط بالمجتمعات النامية حتى لو قبلنا التسليم بأن الفكر السياسي لدى تلك المجتمعات اكتسب الصفة العلمية؟ و أليس حقيقا بأننا يصعب أن نجد منطقا سياسيا وضعيا ومعبراُ عن الحياد ولد إلى حد ما في خارج القارة الأوربية؟ وألا يحتمل أن يختفي أيضا هذا المنطق السياسي؟ المحايد يوم أن ترتفع القارة إلى مرتبة القوة العالمية لتصير فطبا في الصراع الدولي الذي نعاصره وذلك يوم آت لا ريب فيه عندما تستطيع تلك القارة أن تحفف وحدتها السياسية؟

كل هذا في حاجة إلى إيضاح:

أولاً: فأول ما نلاحظه هو أن السؤال الذي نثيره عن حقيقة معينة لتساؤل بخصوصها عما إذا كانت تلك الحقيقة تمثل قيمة معينة أم لا يمكن الإجابة عليه إلا عن طريق المنطق أو الإدارة أو الإيمان أو الإيحاء. أن العلم لا يستطيع أن يثبت القيم، ولكنه يملك الأدوات التي تسمح بإيضاح المفاهيم المرتبطة بتلك القيم ونتائجها أو المخاطر التي يفرضها السعي نحو تلك القيم. بعبارة أخرى الاقتراب من القيم عن طريق التحليل العلمي لا يمكن أن يكون إلا بأسلوب غير مباشر. الأسلوب المباشر للامساك بالقيم يرفضه التحليل العلمي. وليس علينا للتأكد من صحة هذه الحقيقة إلا أن نلقي نظرة على موقف علماء السياسة من النظم الفاشية والنازية خلال الربع الثاني من القرن الحالي أن التحليل العلمي ما كان يسمح بأن نرفض تلك النظم لذاتها وأدوات الإثبات العلمية ما كانت تسمح بأن تفرض اطلاقية القيم التقليدية التي ورثتها الإنسانية عن تقاليد الثورة الفرنسية وما أعقبها من تطورات. وهكذا عدم إمكانية الحكم دون قيد على الفاشية والنازية خلق ما اسماه المفكرون مأساة علم السياسة في القرن العشرين عدم استطاعة المنهاج العلمي لأن يتخذ موقف غير مشروط من الأحكام القيمية قاد إلى ذلك الذي أسماه مؤرخو الفكر السياسي بالثورة على نسبية قيمة المنهاج العلمي. رغم أننا لا نستطيع في هذا المجال أن نتابع التطور التاريخي لهذا الصراع الفكري ابتداء من "ماكس فيبر" حتى "ليوستراون" بجامعة شيكاغو "وفيجلي" بجامعة ميونخ، فأن العالم الأشهر" بريشت" استطاع أن يبرز لنا نتائج هذا التصادم الفكري. ولعل أهم هذه النتائج ضرورة التميز بين أنواع المعرفة، فالمعرفة المستندة إلى المنطق المجرد ليست هي المعرفة المستندة: إلى الالتحام بالظاهرة، وهذه الأخيرة تختلف إذا ما كانت تفترض التأثير والتأثر أو العلاقة الذاتية بين الباحث عن الحقيقة التي نبحث عنها، وما إذا كانت الحقيقة تقف صماء ترفض مثل تلك العلاقة. وواضح أن المعرفة السياسية تدور أساس حول ذلك النوع الثاني من أنواع المعرفة.

ثانيًا: ذاتية التحليل السياسي تعني إذن تفاعلا بين الباحث والمظاهرة بوضع التحليل هذا التفاعل ضروري ولازم، لأنه بقدر هذا التفاعل، بقدر ما يستطيع عالم السياسة أن يغوص في أعماق الظاهرة وأن يمسك بأدق تلابيبها أليست المشاركة التي هي أسلوب من أساليب التحليل السياسي قد ارتفعت وأضحت اليوم من أهم وسائل التحليل الميداني في نطاق الإلمام بالظاهرة السياسية كل سوف نرى فيما بعد هو صورة ويظهر من مظاهر ذلك التفاعل؟ ولكن كل سلاح ذو حدين فإن هذا التفاعل وهذه الذاتية سوف تجعل من الظروف المرتبطة بالباحث- عقيدة وفكر من جانب وخبرة شخصية ومصالح فردية من جانب آخر – تنعكس في تقييم الموقف أولا ثم في تصور الظاهرة ثانيا، بل وهذا هو الأخطر. في تفسير الظاهرة ثالثا.

ثالثًا: ويزيد ويضاعف من تعقيد مشكلة الحياد أي عملية الحياد تفترض مناخا معينا. فلو فرض وقبله الباحث وسعى إلى تحقيقه. فهل يكفي ذلك لإمكانية تحقيقه؟ ألا يفترض ذلك توفر مناخ سياسي معين؟ ليستطيع الباحث أن يصف العالم الواقعي الذي يحيط به كما يفهمه وكما يتصوره، أي بحياد واستقلال، فإن هذا يفرض وجود الحاكم المستعد لتقبل حرية البحث أن لم يكن مستعدا لمساعدة الباحث على القيام ببحثه وكي حاكم له أيضا مدركاته وأفكاره. ونحن نسلم أن صياغة أفكار الحاكم لا تخضع لنفس المعايير التي يجب أن تخضع لها أفكار الباحث أو المفكر. أحدهما ينبع من الواقع ويتطوع به بحيث ينتهي بأن يصير أسيرا له لأنه رجل الإستراتيجية التي تعني المواجهة اليومية والتقيد بالظروف. الثاني ينبع من القيم والمبادئ التي وصل إليها عن طريق منطقة المجرد وراح يسمى لأن يخلي لها قنوات تسوى من خلال الحياة اليومية لا منظورا إليها على أنها واقعة يجب أن نتحكم في تجديداته، وإنما على أنها حقائق يحكمها قانون عام لا يتقيد بمكان ولا بزمان. وهكذا من الطبيعي أن يحدث خلاف أن لم يكن تصادم بين رجل الفكر ورجل الحركة. لقد اختلفت نظم وعقائد هتلر وموسليني وستالتنى. ولكنهم جمعيا التقوا حول أمر واحد تعقب واضطهاد كل مفكر سياسي حر لم يقبل أن يتحول ليصير بوقائع ينفخ ويصفى بمناسبة وغير مناسبة.

هل الظاهرة السياسية تفرض إذن عدم الحياد؟ بعبارة أخرى هل رغم هذه الطبيعة للظاهرة السياسية من الممكن حياد التحليل السياسي؟ سؤال في حاجة إلى إجابة صريحة.

إمكانية تحقيق الحياد في التحليل السياسي: درجاته ومتطلباته

رغم كل ما سبق وذكرناه فإن هذه الصعوبات لا تضع من إمكانية تحقيق درجة معينة من الحياد في التحليل السياسي. فلو تركنا القيم جانبا ونظرنا إلى الوقائع فإن هذه يجب أن تخضع لمعايير ومقاييس بأن يكون إلمامنا بها محايدا لا يعرف التحيز ولا يقبل أي صورة من صور الذاتية في النظرة التي نلقيها على تلك الوقائع والوقائع بالنسبة لعلم السياسة هي نقطة البداية. أن الواقعة هي الركيزة التي يجب أن نبني عليها عملية التحليل السياسي. نتأكد منها ونلجأ في سبيل ذلك إلى جميع الوسائل التي يقدمها لنا علم التاريخ. ثم نجعلها واضحة كل الوضوح. ننظفها وننظفها حتى تصير مضيئة كالجوهرة. إن الواقعة في لؤلؤة قد أحاط بها الغبار. ووظيفة عالم السياسة الأولى هي أن يرفع ذلك الحياز. حتى إذا أصبحت نقية تتلألأ. تأتي المهمة الثانية وهي أن تربطها بوقائع أخرى قد خضعت لنفس العملية: أن دراسة وتحليل تلك العلاقات هي وحدتها التي تعطى للواقعة قيمتها ومدلولها.

هذه العملية من الممكن أن تخضع لجميع عوامل الحياز: سواء في اختيار المشكلة سواء في إعداد إدارة التحليل، سواء في تفسير النتائج، المستويات الثلاث التي يمكن على أي منها أن يتحقق التحيز. الأولي أي اختيار المشكلة تعني الاتجاه إلى تلك الناحية أو إلى ذلك الغموض بلا وعي ولا شعور الذي يرتبط بتأكيد أو رفض عقيدة معينة. أما إعداد أداة البحث فيظهر بصورة واضحة في عملية صياغة أدوات جميع المعلومات: إدخال عبارة معينة تثير الحالة موضع التحليل أو ترتيب الأسئلة بشكل معين بحيث أن أيا منها يؤثر في التالي، جمعيها وصولا لإمكانية خلق حالة التحيز التي قد تدفع إلى تشويه النتائج أو بعبارة أدى إلى جمع معلومات لا تصور الحقيقة بأبعادها الواقعية. كذلك عدم الحياد، وهذا أسوأ صورة من صور التحيز- قد يرتب بتفسير النتائج يساعد على ذلك أن التلاعب بإحصاءات سهل وممكن وأن المواطن الحيادي بن وفي بعض الأحيان نفس المتخصص قد يصعب عليه اكتشاف مثل ذلك التلاعب.

فكيف يمكن إذن أن تخضع التحليل السياسي لعملية الحياد؟

الوسائل بهذا الخصوص عديدة:

أولاً: وبغض النظر عن اختلاف مستويات عدم الحياد، فإن تعدد الباحثين أو بعبارة أخرى تنفيذ البحث السياسي عن طريق المجموعة هو احد الأدوات والضمانات التي تسمح بتحقيق درجة معينة من عدم الذاتية. وتظهر نتائج ذلك واضحة فيما يتعلق بأسلوب تحليل المضمون، أن تعدد الباحثين وسيلة لتصحيح التحيز

ثانياً: كذلك الالتجاء إلى التاريخ والإكثار من استخدام الأسلوب المقارن أداة حاسمة في عملية ضبط التحيز

ثالثاً: تم وضع قواعد معينة بخصوص إعداد أداة وعملية تجريبها وتكرار تطبيقها مع مقارنة النتائج قبل التطبيق النهائي لجمع المعلومات يسمح بضمان عدم التحيز في إعداد البحث.

رابعاً: على أنه قبل كل هذا فأن إيمان العالم واستعداده فضلا عن تعوده على ذلك الحياد وتلك الموضوعية، إلى جانب المنهاج العام السياسي الذي يسمح بذلك يمثل الضمانات الحقيقة لإمكانية تحقيق الحياد في التحليل السياسي.

هل الحياد في التحليل السياسي لازم أم يجب استبعاده الخلاف الفقهي ونتائجه

صراع عنيف كان ولا يزال إلى وقت قريب ودور بهذا الخصوص مدرستين أو اتجاهين أحدهما يرفض الوضعية والحياد، وثانيهما تفترض الوضعية والحياد ولا تقبل فكرة الاستغناء عنها في التحليل السياسي الذي يريد أن يرتفع إلى مرتبة العلم في معناه الحقيقي.

فالمدرسة التي تصف نفسها بأنها نظرية تجريبية تؤمن بضرورة فصل النواحي التجريبية عن معتقداتنا السياسية. أن صدى الفرضيات التجريبية أو خططها لا يعتمد كشئ يحتمه المنطق على ما تعتقد بوقوعه بل على ما هو واقع فعلا. على العكس من ذلك فإن المدرسة المناهضة لهذا الاتجاه والتي تصف نفسها بأنها مدرسة " ما بعد التجريب" بمعني أنها لا تقف أمام التجربة وإنما تتجاوز التجربة ذاتها ترفض الإيمان بالتحليل السياسي الذي يقوم على الحياد والوضعية السياسي

بهذا المعنى، أي بمعني أن الحياد يصير غير لازم بل يفترض عدم الحياد فان دراسة الظاهرة السياسية تتميز بخصائص معينة:

أولاً: عدم الفصل بين القيم والوقائع، أنصار هذه النظرية يقولون بان الحقائق والقيم مترابطة ومتراصة يختلط كل منها بالأخر بحيث يستحيل دراسة أيا منها مستقل عن الآخر.

ثانياً: كذلك فأن الغاية من دراسة الظاهرة السياسية ليست مجرد المتعة الفكرية وإنما الغاية من ذلك هي التصرف السليم أو بعبارة أخرى أناره الطريق لاختيار خير الحلول وعملية التنصيم بعبارة أخرى التي هي الغاية النهائية من كل تحليل سياسي ليست إلا حياكة مستمرة للحقائق مع القيم. فكيف نفصل بين القيم والوقائع. لنضع هذه في جانب وتلك في جانب آخر، بدعوى الوضعية والحياد.

ثالثا: ثم من كبار المفكرين في نطاق فلسفة السياسة اكتفي بتقديم دراسة وصفية للواقع السياسي ولم يحاول أن يقود الإنسان في معركة التفصيل بين القيم والمثاليات السياسية؟ أن أي نظرية سياسية لا بد وأن تتضمن قسما من التقييم ليس للوقائع وأنما أيضا للصفات الخلقية للحوادث والتطورات السياسية. أليس هذا نوعا من القيم؟

رابعاً: وينتهون إلى القول بأن مجرد تصور إمكانية خلق نظرية سياسية ذات صيغة ووضعية ليست إلا نوعا من الخيال، وحتى إذا أمكن خلقها فأنها تصير سطحية لا معني لها.

جميع هذه الحجج لم يعد من الممكن تغلبها وسوف نرى من خلال الأجزاء المقبلة من دراسة مشكلة أبعاد التحليل السياسي كيف أجاب الفكر المعاصر على جميع هذه الحجج التي تدور حول التشكيك في عملية ووصفة الثقافة السياسية. والواقع أن هناك قسطا معين من الحقائق اصحي من الضروري التسليم به.

1-             أن علم السياسة أن أريد له البناء فإن عملية الحياد والوضعية ضرورية لا شك في لزومها وأن هذا هو معيار التفرقة الجوهري بين السياسة كعلم والسياسة كفلسفة صحيحي أن هناك صلة وطيدة بين الفلسفة والعلم والنظرية، ولكن يجب أن نسلم بأن كلا منها تفرض درجة أكثر توغلا في الوضعية والتجرد من الذاتية.

2-             أن الكفاحية ليست على عدم الحياد. الكفاحية تعني المشاركة في الأحداث تعني عدم الانفصال في الواقع، تعني بعبارة أخرى ربط الفكر بالواقع الحركة بالتأمل بطبيعة الحال هذه العلاقة تجعل الحياد أكثر صعوبة ولكنها لا تختلط بعدم الحياد وليس أدل على ذلك من التميز بين الأيدلوجية السياسية والنظرية السياسية. الأولى كفاحية غير محايدة. أما الثانية فرغم أنها كفاحية فهي شائعا محايدة.

3-             كذلك يجب أن تسلم بأن كل ظاهرة سياسية تتضمن جانبين: واقعة من جانب وتقييم من جانب آخر. حدث تقبل صحته أو ترفضه، ثم إطار للقيم نسعى لإدراج ذلك الحدث أو تلك الواقعة في عالمه ومنطقه. العلاقة بين القيم والوقائع تفترض عملية منطقية يمكن أن تتخذ صورة من اثنين: إما أن نبدأ بالواقعة نغربلها ثم نقيمها ونستخلص منها مدلول القيمة فيصير انتقالا من التجريب إلى التجريد وإما أن نفترض القيمة السياسية ونسعى من خلال الواقع لنأكد هذا فنقول هذا انتقالا من التجريد إلى التجريب. وهكذا من الناحية الموضوعية من حيث العلاقة بين الوقائع والقيم فنحن أمام عمليات ثلاثة: معرفة بالوقائع، إطار للقيم، عملية منطقية، وتصير المشكلة أساسا هي مشكلة تنظيم العلاقة بين هذه العمليات الثلاث، هذا التنظيم الذي لا بد وأن يسمح بالتقابل بين الواقعة والقيمة في لحظة من لحظات التوازن الفكري.

4-             هكذا فإن مشكلة الحياد لا تعدو أن تكون في جوهرها عملية ضبط النتائج أو بعبارة أخرى اكتشاف أدوات ووسائل التحقق من صحة النتائج. هنا تكمن طبيعة الصعوبة وحقيقة المشاكل التي يجب على عالم السياسة أن يقابلها بصراحة وشجاعة.

ثالثُا: نماذج المنطوقات السياسية وتطبيقات عملية:

لنستطيع أن نلمس المشاكل المختلفة السابق ذكرها والتي تثيرها عملية التحليل السياسي، سواء تلك المرتبطة بطبيعة الظاهرة. أم تلك التي تفرضها الأبعاد الوظيفية للثقافة السياسية في المجتمع المعاصر، فلنقدم بعض نماذج لمتطرقات سياسية تسمح لنا بالانتقال من هذا التأصيل إلى شيء من التطبيق.

فلنفترض أن أمامنا خمسة منطوقات سياسية:

1-             ريتشارد نيكسون حصل على شعبية انتخابية عام 1068 أكثر مما حصل عليه خصمه هيوبرت هومفرى.

2-             أكثر من 19% من الزنوج الذين صوتوا في انتخابات 1968 كانوا في صف هيويرت هومفرى على العكس من ذلك فأن 80% من أصوات اليهود ذهبت إلى نسكون.

3-             نستطيع أن نستنتج من الانتخابات الأمريكية أن ارتفاع مستوى الثقافة لا يضطرد مع ظاهرة المشاركة السياسية.

4-             العدالة السياسية خير من عدم العدالة السياسية.

5-             النظام الديمقراطي هو خير النظم السياسية.

هذه المنطوقات السياسية الخمس تختلف من حيث إثبات كل منها وطريقة الوصول إلى عملية الإثبات:

أولاً: فالمنطوق الأول هو إعلان عن حقيقة تاريخية تدور إذن حول واقعة: هي صحيحة أم غير صحيحة. ومما لا شك فيه أنه يصعب أن نجد محللا سياسيا يشك في صحتها ولكن قد نتصور مؤرخا يستطيع أن يكتشف بحدوث تزويد في عملية الانتخاب، أو خطأ في حساب الانتخاب (نصف مليون صوت مثلا لإحدى الولايات حسبت خطا لنيسكون وهي في واقع الأمر لخصمه) ومن ثم تصير الواقعة غير صحيحة.

ثانياً: المنطوق الثاني بدوره واقعة كالمتطوق الأول. ولكن هذه الواقعة تفترض تحديد مسبقا لبعض المفاهيم. هذه المفاهيم قد تبدو واضحة، وقد تكون غير واضحة وقابلة للمناقشة. فالزنجي أكثر وضوحا كمفهوم سياسي من اليهودي. ومع ذلك ففي كلا الحالين: من هو الزنجي؟ من هو اليهودي؟ وذلك الذي يولد من أب أبيض وأم سوداء أو العكس هل يوصف بأنه زنجي؟ وإذا كان اللون قد يفسر الفارق بين الزنجي والمخلط فالمشكلة بالنسبة لليهود تختلف. واليهودي حتى في التقاليد العبرية غير واضح التحديد وموضع خلاف هنا ترى أن الوقائع بدأت تتداخل مع المفاهيم.

ثالثًا: إذا انتقلنا إلى المنطوق الثالث وجدنا أنفسنا إزاء استنتاجات مردها ثابتة بين الوقائع والمفاهيم. المنوق يعلن عن علاقة بين الظاهرة القافية وظاهرة المشاركة.

رابعاً: إذا انتقلنا إلى المنطوق الرابع وجدنا أنفسنا في مجال المقارنة بين مفهومين كل منها يتضمن العديد من الوقائع والنظم وكل منها يكاد يستحيل تحديده تحديدا كميا. ما المقصود بالعدالة؟ ما معني عدم العدالة؟ أحكام قيمية يساعد على الوصول إليها في هذا المنطوق أنها تتضمن مقارنة بين الشيء وعكس الشيء.

خامساً: فإذا انتقلنا إلى المنطوق الخامس وجدنا أنفسنا في نطاق تلك القيم السياسية المطلقة والتي تقف ولا تزال تقف نحن علماء السياسة إزاءها في حالة حيرة حيث لم تسعفنا بعد بخصوصها أدوات النطق والتحليل السياسي.





تعليق طباعة عودة للخلف

عدد القراء: 177

عدد التعليقات: 0
مواضيع ذات صلة

 

        تعليقات الزوار

Contact Us

feel free to contact us at our Email : kamaltopic@gmail.com

Dr. Kamal Mobile is :+970599843850

رؤية وأهداف

نهدف من خلال موقعنا إلى تزويد الطلاب والباحثين والمهتمين بخدمات علمية مجانية عالية المستوى ونشر أبحاث ودراسات اكاديمية

الدكتور كمال الأسطل,

Missiion Statement

Our goal is to provide students, researchers and interested people with high standard, free of charge scientific services and to publish academic researches.

Kamal Astal,